«النداء» تفتح ملف المختفون قسرياً (1)

«النداء» تفتح ملف المختفون قسرياً (1)

علي تيسير وكيل وزارة حقوق الانسان لـ"النداء":
إذا لم يغلق بطريقة صحيحة.. سيفتح يوماً ما

* الفريق الدولي هو من أغلق هذا الملف، ولم تتسلم الوزارة رسالة شكوى من أسرة «السيلي» عن اختفائه
 
قال وكيل حقوق الإنسان إن كل عمل من أعمال الاختفاء القسري يعتبر جريمة ضد الكرامة الانسانية وإنكاراً لمقاصد الأمم المتحدة وانتهاكاً صارخاً لحقوق الانسان والحريات الاساسية التي وردت في الاعلان العالمي لحقوق الانسان.
 
- جلال الشرعبي
 
 
واشار علي تيسير في مقابلة مع «النداء» إلى أن الإختفاء القسري يحرم الشخص الذي يتعرض له من حماية القانون وينزل به وبأسرته عذاباً شديداً، وهو ينتهك قواعد القانون الدولي التي تكفل حق الشخص في الإعتراف به كشخص في نظر القانون وحقه في الحياة والحرية والأمن، وفي عدم التعرض للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهنية.
وكيل وزارة حقوق الإنسان الذي كان يتحدث في مكتبه قال أيضاً إن الحكومة اليمنية تعاطت بجدية وشفافية في هذا الموضوع مع فريق الإختفاء القسري من الأمم المتحدة الذي قدم إلى اليمن بخصوص طلب معلومات حول عدد من حالات الإختفاء القسري التي نتجت معظمها من جراء الإقتتال الداخلي في جنوب اليمن قبل تحقيق الوحدة في 22 مايو 1990م، والذي بات يعرف بأحداث 13 يناير 1986م.
وأضاف: «لقد استقبلت بلادنا الفريق العامل المعني بالإختفاء القسري منذ أغسطس 1998م، لبحث الوسائل الممكنة لحل هذه المسألة الإنسانية وبيان الجهود الحكومية وشرح الصعوبات والمعوقات التي تقف حائلاً أمام الحكومة في سبيل الحل وتمكينها من مقابلة المسؤولين الحكوميين وأسر الضحايا، وحتى الآن مازال التعاون الشفاف قائماً.
الواضح من حديث المسؤول الثاني في وزارة حقوق الإنسان أن الجهود الحكومية كانت تنصب لإقناع الخارج الممثل في الفريق المعني بالإختفاء القسري، في جنيف. غير أنه يبرر هذا بأن لقاءات عدة قامت بها الوزارة مع أسر وذوي المختفين وأنها ما زالت تتابع بقلق هذا الأمر. وأشاد بالدور الذي لعبته اللجنة الوطنية لحقوق الانسان منذ البداية وبذلت الجهود المضنية، كما قامت بنشر إعلان صحفي لكافة أسر الضحايا لتقديم معلومات حول إختفاء ذويهم ونفذت العديد من الاجراءات الفاعلة لإستجلاء مصير المختفين، وقد قامت بتقديم تقرير في العام 2002م يتضمن المعلومات المتحصلة نتيجة لتوصيات الفريق العامل عن حالات الإختفاء القسري في اليمن. كما قام وفد رسمي بالعديد من الزيارات بدعوة من الفريق وتم مناقشة التقارير المقدمة من الجانب اليمني في لقاء عقد في مبنى الأمم المتحدة في نيويورك في اغسطس 2002م.
وأوضح الوكيل: «كان نتيجة تلك الجهود أن أوقف الفريق النظر في (56) حالة من الحالات المبلغ عنها لاقتناعه بالردود المقدمة حولها، واعتبارها منتهية بعد مرور ستة أشهر كاملة دون تلقي تعقيبات أو مراسلات حولها من قبل الجهات التي أبلغت عن تلك الحالات أو الأسر المهتمة بمعرفة مصير أقاربها المدعى اختفاؤهم، وأبقى الفريق تحت النظر (35) حالة طالب الفريق الحكومة اليمنية ببذل المزيد من الجهود في التحقيقات حول هذه الحالات حتى يتم استجلاء الموقف عنها. كما وافى الفريق اليمن بالحالات الأخرى المسجلة لديه وعددها (150) حالة اختفاء يدعى بحصولها في فترات مختلفة منها في الستينات والسبعينات والثمانينات ومنها يدعى حصولها في حرب صيف 94م أو أثناءها».
وتابع: «لقد قمنا بصفة دورية بإرسال كافة المعلومات التي حصلنا عليها إلى الفريق العامل المعني بالإختفاء القسري حيث أعلن الفريق العامل تعليق النظر في (6) حالات وتطبيق قاعدة الستة الأشهر عليها لاعتبارها منتهية في شهر سبتمبر 2004م».
وحول اعتبار الوزارة تاريخ الإعتقال تاريخ وفاة للاشخاص المختفين وقيامها بتقديم معلومات للفريق الدولي حول العديد من المختفين باعتبارهم متوفين قال: «عندما لا نعرف مصير شخص له سنوات طويلة مختف حينها نعتبره متوفى ونقدم للفريق الدولي معلومات عن استلام ذويه لراتبه بانتظام».
يعتبر وكيل وزارة حقوق الانسان تسليم الراتب لذوي المختفي الذي تعتبره الوزارة متوفى وتطالب جهة عمله بشهادة الوفاة إنقاذاً لسمعة البلد [وردت هذه العبارة في احدى مخاطبات الوزارة] تعويضاً كافياً لأسرته، وأن غير الموظفين قد تم اعتماد مكافأة شهرية لذويهم «لا يعرف مقدارها». وفي يونيو 2005م، أعلن فريق الإختفاء القسري أن الحالات التي ما زالت قيد النظر من قبل الفريق عددها (90) حالة فقط، بعد أن تم إقناعه من الجانب اليمني بأن الحالات الأخرى (60) حالة، تعتبر منتهية و غير محتاجة إلى إعادة البحث والتحري حولها.
خلاصة حديث وكيل وزارة حقوق الانسان أن هناك التزاماً رسمياً يمنياً دؤوباً لإقناع الفريق الدولي بإغلاق قضايا مختفين قسرياً ما زالت حالاتهم تمثل قلقاً كبيراً أمام الحكومة اليمنية، وأن هذا الجهد الذي ينصب بتفان نحو الخارج يكسوه الصمت وربما الغياب في التواصل مع أسر وذوي المختفيين قسرياً في الداخل. وأن أسارير الوجه تبدو عريضة حالما يحقق الفريق اليمني نجاحاً في إقناع الفريق الدولي بإغلاق قضايا مختفيين قسرياً غالب أهاليهم يعيشون ظروفاً صعبة وإنتظاراً قاسياً.
ويقول علي تيسير إن الفريق اليمني الذي يضم ثمانية أعضاء قام بالنزول الميداني لأغلب المحافظات والمدن التي يتواجد فيها أهالي المختفين لرفدهم بالمعلومات التي يمكن رفد التقرير الرسمي بها- وهذا يعني أن الجهود المبذولة تنصب في إثبات حالة الوفاة بالنسبة للمختفين، دونما تقديم شهادات تثبت وفاتهم من قبل الجهات التي قامت باعتقالهم.
ورغم نفي عديد من ذوي المختفين لـ«النداء» الذين كانوا غير موظفين مع الدولة، استلامهم لمرتبات حكومية، إلا أن وكيل حقوق الإنسان أكد أنه تم التواصل مع عديد جهات رسمية وهي تتكفل بمنح إعانات ومرتبات شهرية لذويهم اعتبرها الوكيل تعويضاً.
وقال وكيل وزارة حقوق الإنسان: «سنغلق هذا الملف غلقاً أمنياً، قسرياً. وإذا لم يغلق بطريقة صحيحة فإنه سيفتح يوماً ما».
وأضاف: «إن ملف المختفين قسرياً من الملفات الكبيرة وتستحق الأطراف الرسمية التي تعمل في هذا الشأن التقدير».
وحول مسؤولية الدولة ومساءلتها إزاء حالات إختفاء قسري كانت طرفاً فيها قال: «كيف أحاسب أشخاصاً ليس لديهم يد في الموضوع، ولم تكن الدولة الحالية هي من تحكم، والمسؤولون ليسوا هم انفسهم عندما حدثت عمليات الإختفاء؟! ولو كانت الدولة هي التي تحكم لحاسبناها بشكل كبير».
وتابع: «لا تتحمل الدولة مسؤولية مباشرة فيما حصل ولكنها تظل مسؤولة أخلاقياً وانسانياً حتى تقوم بالسيطرة عليه وتعويض المتضررين وهي تجتهد من أجل هذا وإن كان ليس بشكل كامل».
وقال علي تيسير إن وزارته مستعدة لبذل كل جهودها إذا تبين أن أياً من ذوي المختفين لا يتسلمون رواتب ذويهم أو تعرضت للإيقاف لأنها وسيط بين الأشخاص والجهات الرسمية. «أقول عبر «النداء»: أي أسرة تم إيقاف راتب عائلها المختفي قسرياً لن تقف الوزارة مكتوفة الأيدي وستتابع بجدية هذا الأمر».
وبشأن إختفاء صالح منصر السيلي قال: «ليس لدينا معلومات كافية ومؤكدة عن حالته. وما نعرفه أنه كان لديه إمكانيات مالية كبيرة وقد يكون إختفاؤه مناسباً له بل ومن في حالته سيبذل كل الجهود حتى يختفي.. علاوة على أن وزارة حقوق الإنسان حتى الآن لم تتسلم أي شكوى من أهله وذويه عن إختفائه لذا فإن الغموض يحوم حوله».
وأوضح أن العديد من الجماعات استخدمت هذا الملف استخداماً سياسياً للمناكفات. لكنه يحترم الآراء من أي جهة كانت ما دام الموضوع بهكذا أهمية.
وحول نية العديد من أسر المختفين تفعيل قضيتهم دولياً حال استمرت الجهات الرسمية متجاهلة لهم قال: «المسألة لا تحتاج إلى هذا الحمل الثقيل».
وعن قانونية إغلاق الملف من قبل وزارة حقوق الإنسان قال: « الفريق الدولي هو من أغلق الملف طبقاً لشروطه المتبعة»
وأشار وكيل وزارة حقوق الانسان إلى أن جملة من الصعوبات واجهت عملهم منها عدم وجود سجل مدني متكامل لتسجيل جميع حالات الولادة والوفاة خلال الفترة التي وقعت فيها الأحداث، وأن العديد من الظروف والأوضاع التي رافقت تلك الأحداث أدت إلى فقدان الكثير من القرائن التي يمكن الإعتماد عليها كأدلة إثبات للحالات، فضلاً عن عدم وفرة البيانات المقدمة من المفوضية لتوضيح الحالات المحددة في كشوفاتها، والصعوبات التي رافقت عملية البحث عن المعلومات وعدم ذكر ألقاب بعض الحالات الواردة في كشوفات المفوضية ووجود تشابه كبير في الاسماء الثلاثية لبعض الحالات.
«إن ما تأمله اليمن من الفريق الدولي هو أن يتم تطبيق قاعدة الستة أشهر على كافة الحالات المدرجة في كشوفات الفريق العامل المعني بالإختفاء القسري».
هذا ما يؤكده الوكيل علي تيسير والعبارة التي تجدها الوزارة مناسبة لتذيل بها تقاريرها المقدمة إلى المفوضية السامية.
[email protected]

 
***
 
 
 
البحث عن تحسين سمعة بدلاً من المفقودين
 

اهتمام الأمم المتحدة المتزايد والمتعاظم -بحقوق الإنسان هو العنوان البارز للعلاقة بين هذه المنظمة الدولية، وأسر المختفين قسراً، وناشطي حقوق الانسان -جماعات وأفراد- في اليمن. وتمسك أرباب وأولياء وهذه الأسر، ببلاغاتهم السابقة واستماتتهم الصلبة في المطالبة بالكشف عن مصير ذويهم، هي العنوان الأبرز في هذه العلاقة القائمة على مبدأ أن حياة الانسان مصطفاة نبيلة ورفيعة جداً، حرمت الشرائع السماوية والقوانين والمعاهدات انهاءها أو ابادتها أو انتهاكها أو الانتقاص منها بالظلم أو التعسف أو القهر أو الخطف أو الاختفاء القسري غير الطوعي.
ويجد المتابع لملف الاختفاء القسري في اليمن أن العلاقة بين أسر المختفين قسراً والمفوضية السامية لحقوق الانسان سابقة بسنوات على العلاقة بين المنظمة والحكومة اليمنية، وتقوم على قوة الحجة وتشبث الأسر بحقوق ذويها المختفين.
البداية الزمنية لهذه العلاقة غير دقيقة لمن أراد توثيقها والتعاطي معها، فهناك من يرى انها بدأت عقب احداث يناير 86م ونزوح جماعات كبيرة ممن كانوا يُعرفون بـ«الزمرة» إلى الشطر الشمالي، وجعل صنعاء محطة للتواصل مع المفوضية بجنيف ونيويورك. واستجابت المفوضية -كما تبين تقاريرها- كثيراً لتقارير الاختفاء القسري التي كانت ترسل احياناً من باب توسيع نطاق المعونات والمساعدات الخارجية: المادية والمالية، لأسر المختفين قسراً وضحايا هذه الاحداث عموماً. وأحياناً أخرى من باب المماحكات وتصفية الحسابات مع الحزب الاشتراكي اليمني اثناء حكمه للجنوب.
ويتجسد هذا الرأي الأخير في ذلك التحامل غير المبرر الذي اظهره الرد الرسمي للجمهورية اليمنية الصادر في يوليو 2002م على المفوضية. فالرد الذي أعدته اللجنة الوطنية العليا لحقوق الانسان اثناء تولي علي الآنسي مدير مكتب الرئاسة، لرئاسة اللجنة، يحمل الحزب الاشتراكي مسؤولية هذا الملف، وينفي في نفس الوقت نفياً قاطعاً صحة تلك البلاغات المتضمنة حدوث حالات اختفاء قسري اثناء حرب صيف 94م وما بعدها.
العلاقة بين الاسر والمفوضية بدأت -بحسب مراقبين- قبل يناير 86م، فهناك بلاغات محدودة جداً و اقتصرت في الغالب على حالات الاختفاء خلال سبعينيات القرن الماضي. ولا بد هنا من الاشارة إلى الدور الهام والحيوي الذي لعبته وتلبيه المنظمة اليمنية للدفاع عن الحقوق والحريات، وناشطون في هذا المجال، فهؤلاء يمثلون همزة الوصل الرئيسة بين اسر المختفين والمفوضية ويكادون أن يكونوا مصدر معلومات واتصال مباشر مع هذه المنظمة الدولية وقناة رئيسية لإيصال بلاغات الاختفاء أولاً بأول إلى المفوضية.
وبالتتبع للمحطات وللمحطات الزمنية الاساسية لهذا الملف الشائك، فإن عام 1998م يُعد نقطة تحول هامة في حلحلة ملف الاختفاء القسري في اليمن، فقد زار وفد من مفوضية الامم المتحدة لحقوق الإنسان كلاً من صنعاء وعدن خلال الفترة 17-21 اغسطس من ذلك العام وأعدَّ تقريراً مفصلاً عن حالات الاختفاء قدمه لاحقاً للحكومة اليمنية للرد عليه.
الرد الرسمي الأول الصادر عن الحكومة اليمنية في يوليو 2002 تضمن جوانب هامة، نوجز اهمها في النقاط الآتية:
- رغبة الحكومة، الملحة، في التعاون مع المفوضية لأجل حل قضايا جميع حالات الاختفاء القسري وبما يكفل إغلاق هذا الملف نهائياً.
- ان الملف ليس بذلك الحجم أو الخطورة التي تحدث في بعض الدول، ويتضمن حالات محدودة حدثت في ظروف سياسية معينة، وخص الرد بالذكر احداث يناير 86م.
- قيام الحكومة بتسوية اوضاع من تبين اختفاؤه في احداث يناير.
- الاعلان عن توجه الحكومة لمعالجة كافة قضايا الاختفاء القسري.
واكدت الحكومة اليمنية في ردها عدم تحفظها في تعويض أي اسرة ثبت فقدانها أحد أقاربها في احداث يناير 86م (لم يتم تعويض أي اسرة حتى اللحظة)، واعتبار كل من ذهب ضحية هذه الأحداث شهيداً وتتقاضى اسرته إعانة شهرية من جهة العمل التي ينتمي إليها «الفقيد»، وفي حالة عدم عمله في جهة حكومية تمنح الاسرة إعانة من طريق وزارة الشؤون الاجتماعية (الإعانة تبلغ 2000 ريال, 10 دولارات تقريباً، تبجح الحكومة رخيص).
وبالعودة إلى أدبيات مفوضية الأمم المتحدة فقد حددت جملة من الضوابط الاجرائية والاستنتاجات والتوصيات والفقرات المطلوب من الجانب الحكومي توضيحها، أبرزها: ملابسات حالات الاختفاء القسري المبلغ بها، وتشكيل فريق عمل يتولى التواصل مع جميع الأسر المعنية بتسوية القضايا القانونية فيما يتعلق بحالات الاختفاء، وإنشاء قاعدة بيانات تشمل جميع الأشخاص المختفين وأفراد اسرهم والتدابير المتخذة لمنع حدوث حالات اختفاء في المستقبل.
وهناك سلسلة اجرائية مهمة متصلة بالأطراف المعنية الأخرى (أسر المختفين والناشطين والمنظمات غير الحكومية العاملة في هذا المجال) وتقوم هذه السلسلة على صحة بيانات بلاغ الاختفاء وتحديد عنوان وهاتف والبريد الالكتروني كل من هذه الاطراف، والتواصل مع المفوضية والالتزام بالمهلة المعروفة (ستة اشهر) وهو الاجراء الأهم.
وتبين وقائع عديدة ان الاجراء الاخير يشوبه ثغرات وإشكاليات وإرباكات عديدة تحول دون تواصل المفوضية مع هذه الأطراف لإبلاغها بالرد الرسمي لكل حالة من حالالت الإختفاء قبل ايقاف النظر في الحالة من عدمه، وأبرز هذه الاشكاليات تلك المتعلقة بالعناوين وارقام هواتف الاطراف المبلغة بالحالة.
حتى الآن أوقفت المفوضية النظر في أكثر من 90٪_ من الحالات (من أصل 142 حالة)، لكن الملف اليمني ما يزال عامراً، فقد أضافت المفوضية مؤخراً قائمة تضم 71 حالة جديدة معظمها لحالات سجلت عقب حرب 1994.
قد تفعل الحكومة آليات استخراج شهادات وفاة جديدة، لكن سمعتها في الخارج لن تتحسن.
 
 
 
***
 
 
 
ضحايا الإختفاء القسري.. جراح لم تندمل بعد!! - فهمي السقاف
 
 
تعاقبت الانظمة ولم يعترف أو يعتذر احد لذوي الضحايا. لم يفكروا برد اعتبار هؤلاء وتعويضهم. المنظمات المعنية بحقوق الانسان في بلدنا لم تطالب السلطات يوماً برد اعتبار المختفين، وتعويض ذويهم، ومعرفة مصيرهم قبل كل شيء. فعلت المفوضية السامية التابعة للامم المتحدة ذلك لمرة وصمتت. (يجب الاشارة إلى جهد بذل من قبل المنظمة اليمنية للدفاع عن حقوق الانسان والحريات الديمقراطية التي كان يرأسها د/أحمد الكازمي بعدن التي بذلت جهوداً لجمع معلومات عن ضحايا الاختفاء القسري في اليمن، ولكن المنظمة الآن تعيش حالة موت سريري!!).
من حق أسرته أن تعرف مصيره
علوي عبدالقادر العراشة. كثيرون ممن يعرفون الرجل يذكرونه بالثناء عليه: شهامة, وكرماً، ودماثة خلق.
مساء يوم ال23/2/1972م، ليس تاريخ ميلاده؛ إنه يوم وتاريخ اختفاءه، تقريباً اليوم الأخير الذي شوهد فيه.
قبل قرابة عامين شاهد عيان على اختفائه روى لي ما شاهده حينها. ظلت روايته في تلافيف الذاكرة. شراكها حاضرة في ذاكرتي. ومضيت لألتقي شقيقه الأكبر: سقاف عبدالقادر العراشة، لأسمع منه ما يعرفه عن ملابسات إختفاء شقيقه. بدأ حديثه معي قائلاً: «كنت في جعار في السجن (اعتُقل لانتمائه للتنظيم الشعبي لجبهة التحرير وهو كان من العناصر القيادية الناشطة فيها) جلب معه لي وجبة غداء وسجائر وأتى لزيارتي، (كان يحدثني وعيناه مثبتتان للأفق مستعيداً تلك الأحداث وكأنها حدثت للتو كفلم سينما تمر أحداثه أمام عينيه). سألته عمن أتى معه، سمى لي خمسة أشخاص أعرفهم بعضهم يسكن جوار مزرعتنا في قرية مجاورة للمزرعة، وستة من قرية الديو، كنت طلبت منه قبل ذلك اليوم عندما زارني قبل زيارته الأخيرة أن يأخذ الوالدة ويغادر إلى عدن، سألته: لماذا أتيت لزيارتي؟ ألم أطلب منك أن تأخذ الوالدة وتذهب إلى عدن؟! تجادلنا في هذا الأمر. هو لا يريد أن يترك المنزل والمزرعة ولا يرى سبباً موجباً لذلك. وأنا من سجني أرى اضطراب الأوضاع السياسية و الفوضى التي كانت سائدة آنذاك.
وعدني: غداً سنذهب أنا والوالدة إلى عدن. طلبت منه توخي الحذر. مضى ومن كانوا معه، تناولوا الغداء وخزنوا. عصراً سألهم إن كانوا مروحين، أجابوه بأنهم سيتأخرون. واحد منهم رافقه في طريق عودته إلى البيت، لم تمر سوى دقائق. الساعة تقترب من الخامسة مساء... (سألته مقاطعاً: كيف عرفت هذه التفاصيل وأنت في السجن؟) عرفت ذلك بعد سنوات طويلة عرفته من شهود عيان شاهدوه يومذاك وكذلك واحد ممن كانوا معه يومها روى لي ما حدث بأثر رجعي كان ذلك في عام 199٠_م عقب عودتي من منفاي الاختياري: دولة الامارات العربية. (وواصل رواية صحبه الذين قالوا له بأنهم سيتأخرون).. لحقوا به في سيارة تابعة للصحة وأدركوه قبل أن يصل منزله، لحقوا به في الوادي، أبلغوه بأنه مطلوب وعليه مرافقتهم.
تساءل: ماذا فعلت؟! نحن معاً دائماً معاً ونعرف بعضنا من سنوات طويلة بحكم الجيرة و...إلخ! كانوا ضيوفه على الغداء وشاركوه ذات المقيل قبيل دقائق كانوا مخزنين معاً، سألهم عما إذا كانت لديهم توجيهات من جهة رسمية باحتجازه، اعتقاله. أجابوه بأن لا حاجة بهم لذلك وأن عليه أن ينفذ ما طُلب منه وينصاع لهم ويركب السيارة، رفض وتشاجر معهم، مزقوا قميصه تمكن من الهرب منهم، هو أعزل مدني مسالم! أشجار الوادي الكثيفة مكنته من التخفي والهرب، عاد أدراجه صوب منطقة المخزن، طرق باب عامل يعمل لديه في المزرعة، طلب منه إبلاغ اسرته بما حدث معه في الوادي والاشخاص الذين حاولوا خطفه وذهب بعدها مباشرة إلى مقر اللجنة الشعبية بالمخزن (الميليشيا) الكائن في مقر تعاونية المخزن ليبلغ بما حدث معه، هو واثق من أنه بريء، تصرف بفائض براءة، لم يدر أنه كان المستجير من الرمضاء بالنار، زُج به في السجن، تساءل: لماذا تسجنوني؟ ردوا عليه: نحميك منهم. مساء نفس الليلة اقتيد من مقر اللجنة الشعبية بالمخزن صوب المجهول!!».
لم يعرف عنه شيء. خاطبت والدته وأخوته شقيقه الأكبر سقاف الذي أُفرج عنه بعيد اختطاف أخيه لمدة 12 يوماً فقط وُزج به بعدها في السجن لسبع سنوات عجاف. ردود الجهات المسؤولة يومها: لا ندري! أبحثوا عنه ربما يكون عند بعض أقاربه في لحج. وبعد ذلك كان ردهم: حرب الشمال؟!
من حق أسرته أن تعرف مصيره. هو ليس الوحيد؛ كثير كان مصيرهم مماثل وإن أختلفت التفاصيل:
الهارب إلى الشمال
 حسين عمر عبدالله السقاف متزوج وأب لتسعة، 4 ذكور و5 اناث. مدني. في تمام الثالثة و النصف عصراً يوم 26/6/1973م كان الرجل مقيل في منزله بقرية الخاملة م/ أبين بين أفراد اسرته وأولاده. ثلاثة مدنيون يوقفون سيارتهم في الوادي القريب من القرية يطرقون باب منزله، يفتح لهم ، يطلبون منه مرافقتهم لساعات لسواله عن اشياء تعلمها الجهة التي ارسلتهم له!!
قسمات وجوههم تشي بالخطر حال رفض ذلك. اطفاله الصغار حوله. خاف ان يحدث مكروه لعائلته إن أبى الذهاب معهم، رافقهم. شهود عيان، أفادوا حينها بأنهم رأوه وهم يدخلون به بوابة جهاز أمن الدولة حينها في أبين.
إقتيد أيضاً نحو المجهول. نجله الأكبر عمر حسين عند سماعي له روى كيف صادروا سيارة والده. لم يكتفوا بذلك بل طالت المصادرة آليات زراعية لجده وتبعها مصادرة أراضيهم الزراعية. كذلك كان الأمر مع علوي عبدالقادر العراشة، إحتلوا منزله الطيني المكون من دورين في قرية الديو، وصادروا أراضيهم الزراعية وما عليها حتى الماشية طالتها المصادرة. ذات الردود من السلطة تلقاها عمر عند السؤال عن أبيه: لا علم لنا! ربما يكون عند بعض أقاربه ذهب لزيارتهم اسألوا عنه عندهم. وبعد فترة: هرب الشمال! وحتى اللحظة لم تعرف اسرته عن مصيره شيئاً.
العزيبي في إجازة صيف
منصر محسن عبدالله العزيبي، مصيره لم يختلف عن سابقيه إلا في بعض التفاصيل. متزوج وله 4 أولاد وبنتان. ليلاً طرقوا باب منزله (صبر م/لحج)، أربعة مدنيون (لباسهم مدني)، وطلبوا منه مرافقتهم. هو أحد العناصر القيادية في التنظيم الشعبي، أصيب في إحدى المعارك مع الاحتلال البريطاني، نقل للعلاج في جراء إصابته ومنها إلى جمهورية مصر العربية، اعتقل مرتين: مرة في سجن الفتح الشهير وأخرى في سجن مدينة الشعب. وأفرج عنه في مساء يوم 18/4/1971م. أقتاده زواره القسريون إلى المجهول. كان يعمل في الهيئة العامة للمياه، بئر ناصر - عدن. صودرت مستحقاته، راتبه لم يصرف لأولاده، وتصل الصفاقة بالنظام أن يصدر توجيه لكبير المحاسبين بتصفية اجازاته لتصفير راتبه للفترة من 20 ابريل إلى13/6/72م.
كان الرجل بإرادته المحصنة يقضي اجازة صيف طالت بعض الشيء لزم معها تصفية اجازاته، ليدفع راتبها.
وبعد ان تنقضي ولم يأت، يوقف الراتب، اسرته لم تعلم عنه شيئاً، صودرت مستحقاته وأوقف راتبه. وذات الردود من السلطة تلقاها أولاده: هرب الشمال!
36 عاماً من الإنتظار
مصير عبده سعد محمد لم يختلف كثيراً عن مصير من سبقوه. صباح يوم 17/4/1971م ذهب باكراً عمله كعادته دائماً (يعمل في المؤسسة العامة للحفر م/ لحج)، منذ ذلك اليوم وأسرته قيد الانتظار. ستة وثلاثون عاماً ولم يعد بعد. طرقت أسرته أبواب السلطات المختصة، بحثاً عنه. لا جواب خارج الاجابات المعتادة: ابحثوا عنه لدى أقاربه! بعدها: هرب الشمال! عبده سعيد محمد متزوج وأب ل5 ذكور و3 اناث، ينتمي سياسياً للتنظيم الشعبي. راتبه مصدر دخل الأسرة الوحيد اختفى مثله، أي أوقف. وعلى اسرته البحث عن مصدر رزق بديل!!
المخطوف من داخل غرفة العمليات
< النقيب / علي الدهبلي، كنت أنا شاهد عيان على اختفائه. عاينه الطبيب الجراح بمستشفى الصداقة اليمنية المجرية («صلاح الدين» العسكري) وأمر بترقيده في قسم الجراحة الخاص بالضباط ليكمل فحوصاته، وبعدها أجرى له عملية جراحية.
سأكتفي بإيراد الإسم الأول لارتباطه المباشر بعملية اختفاء النقيب الدهبلي.
ملازم إسمه «سيف» قبيل أحداث يناير 1986م بأسبوع تقريباً رقد في المستشفى هو والدهبلي، لكن الأول في قسم الجراحة والثاني في قسم الباطنية، انفجر الصراع الدامي صبيحة ال13 من يناير، الملازم سيف مرعوب مذعور كفأر يقضم اظافره بالتناوب يميناً ويساراً يصعد إلى قسم الباطنية تارة، وتارة ينزل ليبول أسفل الدرج. بدأ الطرف المنتصر بالسيطرة على المعسكرات في منطقة صلاح الدين. اختفى سيف لساعات، وعاد لابساً الزي المبرقع الخاص بقوات الصاعقة بدلاً من زي المرضى.
صباحاً ادخل الدهبلي غرفة العمليات واجريت له العملية. مساءً يعلن سيف -ومعه جنديان- حظر الحركة في المستشفى. يأمر الجنديين بدخول غرفة الدهبلي واقتياده لأنه خطر ومطلوب «زمرة».. مع أنه مريض في المستشفى ولم يحمل سلاحاً ولم يشارك في المعارك التي حدثت. أكتب ذلك والمشهد يمر أمام ناظري. أحاط الجنديان بالدهبلي، ذات اليمين وذات الشمال وسيف مصوباً سلاحه الآلي من الخلف إلى مؤخرة رأس النقيب الدهبلي الذي يمشي بصعوبة جراء العملية التي اجريت له. كان ذلك تقريباً في 17/1/1986م. وهكذا اختفى الدهبلي ولم تعرف اسرته عن مصيره شيئاً حتى اللحظة.
أسر وذوو المختفين قسرياً، يريدون -وهذا حقهم- معرفة مصيرهم، إن كانوا احياء فأينهم؟ وإذا كانوا موتى فأين قبورهم لقراءة الفاتحة وما تيسر من الذكر على أرواح أحبتهم؟
الزعيم الفيتنامي العظيم/ هو شي منه، اعتذر علناً لابناء شعبه ممن تضرروا اثناء الثورة معترفاً بأن اخطاء حدثت، فزادت مكانته لدى ابناء شعبه.

 
***
 
 
من إعلان حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري
 

اعتُمد ونشر على الملأ بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 47/133 المؤرخ في 18 كانون الأول/ ديسمبر 1992
المادة (4):
1 - يعتبر كل عمل من أعمال الإختفاء القسري جريمة يعاقب عليها بالعقوبات المناسبة التي يراعى فيها شدة جسامتها في نظر القانون الجنائي.
2 - يجوز للتشريعات الوطنية ان تتضمن النص على ظروف مخففة بالنسبة للشخص الذي يقوم -بعد اشتراكه في اعمال الاختفاء القسري- بتسهيل ظهور الضحية على قيد الحياة، أو بالإدلاء طوعاً بمعلومات تسمح بإلقاء الأضواء على حالات اختفاء قسري.
المادة (7):
لا يجوز اتخاذ أي ظروف، مهما كانت، سواء تعلق الأمر بالتهديد باندلاع حرب أو قيام حالة حرب أو عدم الاستقرار السياسي الداخلي أو أي حالة استثنائية أخرى، ذريعة لتبرير أعمال الاختفاء القسري.
المادة (9):
1 - يعتبر الحق في الانتصاف القضائي السريع والفعال، بوصفه وسيلة لتحديد مكان وجود الأشخاص المحرومين من حريتهم أو للوقوف على حالتهم الصحية، أو تحديد السلطة التي أصدرت الأمر بحرمانهم من الحرية أو نفذته، ضرورياً لمنع وقوع حالات الاختفاء القسري في جميع الظروف بما فيها الظروف المذكورة في المادة (7) أعلاه.
2 - يكون للسلطات الوطنية المختصة، لدى مباشرة هذا الاجراءات، حق دخول جميع الأماكن التي يحتجز فيها الأشخاص المحرومون من حريتهم وكل جزء من أجزائها، فضلاً عن أي مكان يكون ثمة ما يدعو إلى الاعتقاد باحتمال العثور على هؤلاء الاشخاص فيه.
3 - يكون كذلك لأي سلطة مختصة أخرى مرخص لها بذلك بموجب تشريع الدولة المعنية او أي صك قانوني دولي تكون الدولة طرفاً فيه، حق دخول مثل هذه الأماكن.
المادة (19):
يجب تعويض الأشخاص الذين وقعوا ضحية اختفاء قسري، وأسرهم، ويكون لهم الحق في الحصول على التعويض المناسب, بما في ذلك الوسائل الكفيلة بإعادة تأهيلهم على أكمل وجه ممكن. وفي حالة وفاة شخص نتيجة لاختفاء قسري، يحق لأسرته الحصول على التعويض أيضاً.
 
 
 
***
 
 
 
قيامة عبدالسلام - سامي غالب
 
في طفولته الباكرة في القرية لم يكن «وضاح» يفتقد أباه! وعندما بلغ ال11 بدأ يحاصر والدته «منيرة» وعمه «درهم» بالسؤال عن الأب الغائب فيزيائياً. ومذَّاك كبر السؤال معه، وخبر بانصرام السنين محنة الحياة في أسرة شخص «مختف قسرياً».
في 14 يوليو 1978 نفذت عناصر أمنية حملات دهم واعتقالات في العاصمة صنعاء. كان «عبدالسلام» الكادر الشاب في الاتحاد العام لهيئات التعاون الأهلي والتطوير، أحد ضحايا الحملات؛ إذ ضُبط في شارع السلام- باب اليمن، في التاسعة والنصف صباحاً. وطبق رواية أحد المصادر فقد اعتقل بسبب تورطه في توزيع منشورات للجبهة الوطنية الديمقراطية، أبرز الفصائل المعارضة لنظام الحكم في شمال اليمن.
في دار البشائر شوهد «عبدالسلام» عشية اليوم نفسه. كان قد تلقى حصة تعذيب دامت 12 ساعة. جيء به إلى إحدى الزنازن والدماء تغطيه. «لم يكن تعذيباً قدر ما هو تمثيل» قال شهود عيان لـ«النداء».
لم يظهر ثانية في أي مكان آخر. كانت تلك آخر مرة شوهد فيها، ما يعني -بلغة القانون- أنه ما زال محتجز الحرية لدى الأمن الوطني، حسبما أفاد «النداء» مصدر قانوني.
قبل أسبوع من الليلة المشؤومة، كانت عروسه «منيرة»، 16 سنة، تضع طفلها الأول. أرسل لها مصاريف لتغطية نفقات «السابع»، وأشعرها بأنه يُفضل أن يسمى الوليد «وضاح»، واعداً بلقياها بعد 40 يوماً!
***
كبر «وضاح» وتزوج، وصار الآن أباً لـ«أصيل»، 3 سنوات، وهو يعمل الآن في وزارة الإدارة المحلية، ويقطن رفقة أسرته الصغيرة بيتاً استأجره في العاصمة. وهناك جلست العروس التي تنتظر رجُلها منذ 29 عاماً، لتروي لـ«النداء» سيرة انتظارات بدأت بُعيد زواجها بشهر.
قالت: «تزوجت في مطلع شوال». تقدم عبدالسلام لخطبتها من أشقائها المتواجدين مثله في العاصمة لغرض الدراسة والعمل. في سبتمبر 1977 نزلوا قرية «الدمنة» في الأعبوس، وعرضوا الأمر على والدها فتقرر الزواج.
أمضى العروسان شهر العسل في القرية، ثم غادر العريس إلى العاصمة لمتابعة الدراسة (كان في السنة الثانية بكلية الشريعة والقانون) ومواصلة العمل. في عيد الأضحى عاد عبدالسلام إلى القرية، وكانت عروسه تحمل طفلهما الأول. مكث أسبوعين، وقبل أن يغادرها مجدداً أفصحت إليه عن مخاوفها: «شاموت بسبب الحمل»، لكن الشاب الضاج حيوية مازحها: لا بتموتي ولا شيء، شارجع ولا بك حاجة». منيرة لم تمت، وشريك حياتها لم يرجع، لكن الخبر السار بقدوم مولودهما البكر بلغه إلى صنعاء. بادر الأب، إلى إرسال مصاريف إلى أسرته لتغطية نفقات المناسبة السعيدة.
***
بعد أسبوع من قدوم «وضاح»، تلقت منيرة النبأ الأليم: أعتُقل عبدالسلام! أومأتْ إلى «وضاح» وقالت لـ«النداء»: «كان عمره 7 أيام عندما اعتقلوا أبوه».
بين المعتقلين كان أخوه درهم، وابن عمه، وآخرون. بعد عام أفرج عن الإثنين، لكن عبدالسلام «ما خرجش، ولا احد شافه. ضاع وهيه»، زفرت العروس التي باتت الآن جدة ترعى حفيدها أصيل.
محكوم على منيرة أن تواصل انتظاراتها. «عادني ساهن (مؤملة) إنه شيرجع»، قالت.
وتفحصت «أصيل»، قبل أن تشرك الزميلة بشرى العنسي في أجواء اللحظة المنتظرة، لحظة قيامة عبدالسلام مجدداً: «تخيلي شيرجع وقد ابنه متزوج ومعه إبن».
ولكن قد يكون ميتاً منذ زمن طويل؟
لا تسلِّم منيرة بهذه الفرضية: «لا جابوا جثة، ولا شفنا جنازة ولا شهادة وفاة، ولا سلَّموا ثيابه أو بطاقته، ولا شي».
كما مئات الزوجات والامهات والآباء والأشقاء والأبناء من أسر المختفين قسرياً، تريد منيرة برهاناً مادياً: «كيف أقتنع بأنه مات؟»، سألت مستنكرة: «لو شفته بعيني ميتاً، كنت شاقول: الحمد لله على كل حال».
ما يزال الأمل مقيماً في فؤادها، تسهر منتظرة دقاته: «وإي حين ما دق الباب، فتحنا».
لم يدق عبدالسلام بابها منذ 29 عاماً. وقد حمَّلت «النداء» رسالة إلى الرئيس علي عبدالله صالح: «وصلِّوا لعند الرئيس بأننا ندور عن الرجَّال... نحن مش مقتنعين بأنه مات».
الوقت على شفرة المقصلة
خلافاً للموت، يصعب التأقلم مع الإختفاء القسري مهما استمرت الحالة في الزمن، لعمق الجرح والبعد العاطفي الذي تخلقه مشكلة إنسان حي وميت، حاضر وغائب. والاختفاء يضع الوقت على شفرة المقصلة ليصبح الغائب الأكبر في منطقة الحدث نفسه (كما يرد في تعريف الاختفاء القسري في كتاب «الإمعان في حقوق الإنسان» تحرير هيثم مناع).
تبدو منيرة أصغر كثيراً من سنها، ما تزال على عهدها: عروساً تنتظر فارس أحلامها، مزحزحة الوقت إلى دائرة الغياب الفيزيائي، كما زوجها.
عندما التقتها «النداء» عصر السبت الماضي لم تبدُ عليها أعراض حالة «الانتزاع النفسي»، الحالة التي تصيب -عادة- المقربين من الضحية.
وطبق «الإمعان في حقوق الانسان»، فإن المقربين من الضحية يعاودهم الإحساس بالذنب والمسؤولية، مع نشوء إحساس بالوحدة والفراغ. وتزورهم نوبات إحباط وانهيار عصبي، واضطرابات جسدية وعاطفية، علاوة على غياب المتعة وفقدان الإحساس بالرغبة.
***
 وإذاً، فإن عبدالسلام علي عبدالكريم هايل العبسي، المعتقل في 14 يوليو 1978، ليس في عداد الأموات، دون أن يكون في عداد الأحياء.
ولد عام 1956 في الأعبوس، ودرس الاعدادية هناك، ثم انتقل إلى صنعاء سعياً وراء الرزق. حصل على وظيفة في وزارة المالية، وواصل دراسته الثانوية في مدرسة «جمال عبدالناصر»، ضمن نظام «المنازل». تخرج من الثانوية بتفوق، والتحق بكلية الشريعة والقانون.
كان عصامياً ومثابراً وديناميكياً، طبق شهادات مجايليه. كان في قلب زمنه حاضراً، وقد جذبته الفكرة الاشتراكية، فانخرط في الحزب الديمقراطي الثوري، في سن مبكرة.
وفي مارس 1978، انتقل عبدالسلام الى الاتحاد العام للتعاونيات. سنتذاك استأجر ومجموعة من أصحابه شقة في الصافية الجنوبية.
كانت سنة العواصف والتقلبات الكبرى.
كان الرئيس ابراهيم الحمدي قد أغتيل في الخريف السابق، فتوترت الأوضاع السياسية في البلاد، ونشط معارضو الحكم في شمال اليمن، مستفيدين من الغضب الشعبي لاغتيال الرئيس المحبوب، وحالة «الدوار» التي أصابت حكم الرئيس الجديد أحمد الغشمي، الذي لم يلبث أن اغتيل قبل انقضاء 8 أشهر على كرسي الحكم، إذ أودت به حقيبة مفخخة يحملها مبعوث جنوبي خاص صباح 24 يونيو 1978.
بعد نحو 20 يوماً من اغتيال الغشمي كان مصير الكرسي الرئاسي ما يزال متأرجحاً بين القاضي عبدالكريم العرشي الرئيس المؤقت، والمقدم علي عبدالله صالح، الضابط الصاعد بقوة من داخل القوات المسلحة. وفي الأثناء كان جهاز الأمن الوطني يطوِّر آليات قمع المعارضين وغير المعارضين، في لحظة لاح فيها الحكم عند أجهزته وحماته معرضاً لخطر وجودي!
الثابت أن الخطر الوجودي كان يحدق بالعشرات من الرجال والشباب الحزبيين، وغير الحزبيين. كان درء الخطر عن النظام الموجود يتطلب محو وجود عشرات الشباب الأبرياء.
صباح 14 يوليو 1978 أعتُقل عبدالسلام، ومساء اليوم ذاته اعتُقل عشرات آخرون، بينهم شقيقه الأصغر درهم (المولود في 1958).
شهادة الوفاة كأداة تحسين سمعة
عبر سنوات طوَّرت الحكومة اليمنية آليات وتقنيات للتحايل على عذابات أسر المختفين قسرياً. في حالة عبدالسلام المغيَّب، تتوسل الجهات الرسمية المعنية إغلاق ملفه، كيفما أتفق.
في مذكرة من أمة العليم السوسوة وزيرة حقوق الانسان إلى صادق أمين أبو رأس وزير الإدارة المحلية، بتاريخ 28 نوفمبر 2005، أمُلت الوزيرة موافاتها بأية وثائق قد تفيد في بيان الإجراءت التي تم بناءً عليها اعتبار حالة عبدالسلام من ضمن الوفيات.
ولكن لماذا تحرص الحكومة اليمنية والوزارة المختصة بحقوق الانسان على تصنيف عبدالسلام في عداد الأموات؟
ببساطة: «ليتسنى لنا تقديمها للفريق العامل المعني بالاختفاء القسري (بمكتب المفوضية السامية لحقوق الانسان بجنيف) ما سيسهم بشكل كبير في إيقاف النظر في هذه الحالات من قبل الفريق المعني (...) وتحسين ملف بلادنا في مجالات حقوق الإنسان»، كذلك ختمت الوزيرة أمة العليم السوسوة خطابها إلى زميلها وزير الإدارة المحلية!
الجريمة مستمرة، كما نرى، والمطلوب شهادة وفاة لرجل ليس في عداد الأموات، لغرض تحسين سمعة اليمن دولياً.
«طلبوا منا في الإدارة المحلية نطلِّع له شهادة وفاة على شان الراتب، لكن إحنا ما رضيناش»، قالت منيرة. ثم احتدت: «يقنعونا أولاً (إن كان) حي أو ميت».
لا ترى الغالبية الساحقة من أقارب المختفين قسرياً في وزارة حقوق الانسان، نصيراً لها، بل تم تعيين الوزارة كعدو مباشر يحول دون استرداد الضحايا لحقوقهم. «الوزارة صارت الغريم»، قرَّر -باطمئنان- درهم علي عبدالكريم، الشقيق الذي اعتُقل مساء اليوم نفسه وأفرج عنه بعد عام.
تحولت وزارة حقوق الإنسان إلى حفار قبور.
وبدلاً من متابعة أسر الضحايا، تجهد الوزارة من أجل ترتيب وثائق رسمية تفيد بتسوية الحالات الواردة في قوائم المفوضية. لكن الإنسان المحتجز أو أقاربه، فإنه مجرد «مذكور» في مراسلات الجهات الحكومية والمتخصصة برعاية حقوق الإنسان.
الإبن الذي صار أباً!
«بعد أسبوع من ولادتي اعتقلوا والدي»، قال وضاح عبدالسلام. «ما زلنا ننتظر عودته»، أضاف رب الأسرة الصغيرة المكونة من والدة صابرة، وزوجة، وابن (أصيل) إنه الحفيد الذي يظهر في هذه الصفحة حفياً بصورة جده.
بقي من «عبدالسلام» عشرات الوثائق الخاصة بملفه، وصورة فوتوغرافية واحدة مقاس 4*6، إنها الصورة الوحيدة التي أفلتت من سطوة الأمن والمخبرين والمتواطئين والمتكتمين على الجريمة.
في طفولته لم يكن وضاح يفتقد أباه. ومع الوقت بدأ يثير التساؤلات عن الأب الغائب فيزيائياً، الأب الذي فقد كل وسيلة للتواصل معه. والآن فإن وحيد أبويه يجهد من أجل وضع حد لجريمة مستمرة عمرها من عمره.
تزوج وضاح قبل أربع سنوات، ورزق بطفل أسماه «أصيل». وطبق منيرة فإن الحفيد العنيد ورث سمات جده: الشاب الذي ما تزال تنتظره. وفي منزل الأسرة المتواضع في شارع هايل، بدا أصيل شكساً وعنيداً واستقلالياً بامتياز. وإلى ذلك فقد اختصت الطفل ذا الثلاث السنوات بوظيفة فتح باب المنزل أمام الزائرين، لكأنه، كما جدته، ينتظر قدوم الجد الطيب في أية لحظة. وقد بدا مرة، خلال زيارة «النداء» للمنزل، ساخطاً لأن شخصاً آخر في الأسرة سبقه إلى فتح الباب لإحدى الزائرات.
خبُر وضاح جيداً محنة العيش في أسرة «مختف قسرياً». ويتذكر الآن كيف اجتاح الفزع والدته عندما قرر الانتقال إلى صنعاء. فالعاصمة، في نظر منيرة، ليست عاصماً من الفقد، وقد حاولت عبثاً منعه من السفر إلى «موقع الجريمة». يستعيد الهلع الذي ارتسم في عيني أمه مؤخراً، عندما أصيب بوعكة صحية، وأسعف إلى المستشفى، تاركاً أصيل في حضنها.
بين يدي وضاح عشرات الوثائق، بعضها يعود إلى ما قبل ولادته بسنوات، وبعضها إلى أيام ما بعد النكبة. أحدها تحمل توجيها من أحد المسؤولين في الإدارة المحلية نهاية السبعينيات تقول: «طالما والمذكور في السجن، يُصرف له نصف راتب».
وفي مذكرة أخرى مطلع التسعينات وجه محمد سعيد عبدالله، وزير الادارة المحلية، مذكرة إلى وزير الخدمة المدنية يفيده بأن «عبدالسلام علي عبدالكريم لا يوجد ما يثبت وفاته نظراً لاعتقاله سياسياً عام 1978 وعدم ظهوره حتى الآن»، وبالتالي «يُرجى عدم إحالته على التقاعد حتى إشعار آخر».
إلى جانب وضاح يقف العم درهم بقوة ضد إغلاق ملف أخيه الذي يكبره بعامين. وقد قاتل درهم بضراوة لتعرية دسائس وألاعيب البيروقراطية الرديئة في اليمن.
في مطلع 1992 حرر درهم مذكرة إلى وزير الإدارة المحلية توضح له بأن «أخي عبدالسلام علي عبدالكريم لا ينطبق عليه قانون التقاعد» لأنه لم يبلغ بعد أحد الأجلين: ليس متوفى، ولا بلغ سن التقاعد.
حينها كان درهم قد بلغ 34 عاماً، وكان عبدالسلام، الغائب فيزيائياً، في ال36. لكن منيرة ما تزال الآن، وفي كل أوان، تلك الشابة القروية الصغيرة التي تنتظر كل عشية قرعات عريسها على «باب الأمل»، شريكها الذي يدفع منذ 3 عقود ثمن استقرار نظام حكم، وثمن تحسين سمعته خارجياً.

نوح الطيور
طبق روايات أفراد أسرة عبدالسلام فإن «منيرة» تتابع أسبوعياً البرنامج التلفزيوني «نوح الطيور» وهو برنامج مخصص للجمع بين المفقودين، أو بين المغتربين في الخارج و أسرهم.
تشاهد منيرة «نوح الطيور» أسبوعياً، وتجهش باكية.

- بمشاركة بشرى العنسي