مقالات من دمشق والقاهرة في أربعينية الفقيد الكبير الباشا ناصر بن زبع: كسر شوكة «الرادع» وحلَّق كالصقر تحفه قلوب الشرفاء

مقالات من دمشق والقاهرة في أربعينية الفقيد الكبير الباشا ناصر بن زبع: كسر شوكة «الرادع» وحلَّق كالصقر تحفه قلوب الشرفاء

كان سباقاً في معارضة الطغيان والاستعمار - علي ناصر محمد*
 
فقدت اليمن برحيل الشيخ الجليل، الباشا بن ناصر بن زبع، رجلاً فاضلا ضحى من أجل اليمن قبل ثورة 26 سبتمبر وبعدها حتى قيام الوحدة اليمنية، وكان له بصماته الوطنية عبر مسيرة حياته الطويلة. وكنت أتمنى أن ألتقي به في جمهورية مصر العربية أثناء تلقيه العلاج. ولكن شاءت إرادة الله أن لا نلتقي، بسبب تأخري في الوصول إلى مصر ومغادرته إلى اليمن.
ترك الباشا، إضافة إلى إرثه النضالي والوطني، رجالاً نعتز بهم ويعتز بهم الوطن اليمني. وقد تعرفت على بعضهم في مصر والإمارات العربية المتحدة واليمن. وكما يقول المثل اليمني: "الذي خلَّف ما مات". وحدثني الكثير ممن عرفوه أنه كان مشهوداً له بكرمه وسخائه، إضافة إلى كونه مرجعاً مشهوراً في أعراف القبائل، وله جهود في الإصلاح بين الناس، وكان من سماته الصدق والصراحة وله مكانته واحترامه بين القبائل ولهذا عين عضوا في البرلمان لدورتين قبل الوحدة اليمنية.
كانت له مواقف بارزة في العمل الوطني فهو من أوائل الذين خرجوا من مشايخ مأرب لمقارعة النظام الإمامي. وكان سباقاً في ابتكار عوامل رفض في أوساط القبائل حيث لم تكن مألوفة، فقد اشتهر بأنه رفض نظام الرهائن وبقي على رفضه حتى قامت الثورة. ولم يكتف بذلك، بل يحكي معاصروه رفضه دفع الزكاة للدولة كتعبير عن رفضه لها لأنها لا تعود بالفائدة عليهم. ودفع ثمن مواقفه أن قضى وبعض إخوانه قرابة عشر سنوات بين السجون والمنافي. وقد أشار الشيخ سنان أبو لحوم في مذكراته إلى الحادث الشهير الذي أسماه: "هروب الباشا من الرادع"، واصفاً تلك الحادثة بشبه الكارثة والفضيحة للدولة.
وقد هرب مع عدد من المشايخ إلى بيحان، وشارك في انتفاضة قادتها قبائل بلحارث ضد النظام الاستعماري البريطاني إثر رفضهم الاعتراف بسلطة الشريف الهبيلي ومحاولة بريطانيا نزع ملكية منجم الملح من قبائل بلحارث وتسليمه للشريف ورفضت قبيلة بلحارث تسليم المنجم لبريطانيا وللشريف وبدأت أول شرارات الانتفاضة في 16/7/1947م عندما أطلق أحد أفراد قبيلة بلحارث النار على أحد جنود الشريف وبدأت معركة بين الجانبين، وفي صباح اليوم الثاني هاجمت طائرات من سلاح الجو البريطاني قادمة من عدن، المواقع التي يتمركز فيها أفراد قبيلة بلحارث. وبواسطة الأسلحة البدائية للقبيلة تم إسقاط طائرتين. ومن جراء القصف الوحشي للطائرات البريطانية سقط العديد من أفراد القبيلة دفاعاً عن الأرض والكرامة.
وتكررت المعارك عام 1948عندما ضربت الطائرات البريطانية قبائل بلحارث مما أدى إلى نزوح الكثير من أفراد القبيلة إلى مناطق الجدعان حيث أوى بعض منهم حتى تمت المصالحة بينهم وبين الشريف حسين الهبيلي وعادوا إلى بيحان.
اعتقل في الخمسينات بعد عودته من لجوئه في عدن وإمارة بيحان، ورفض الإمام الإفراج عنه وقال: "لن يخرج من السجن إلا إلى القبر". ولكنه تمكن من الهرب بمؤازرة إخوانه وأصدقائه وحلفائه.
تغمد الله الفقيد بواسع رحمته، وأسكنه فسيح جناته، و"إنا لله وإنا إليه راجعون".

* الرئيس اليمني السابق
 
 
***
 

حياة جديرة بأن تؤرخ - عبد الله سلام الحكيمي
 

الشيخ الباشا ناصر بن زبع، ودع حياتنا الدنيا راحلا بجلال إلى حياة الخلود، منتقلا إلى الرفيق الأعلى، داخلا في رحمة الله الواسعة مع الصديقين والصادقين والأتقياء الذين ما كانوا يريدون علواً في الأرض ولا يستكبرون.
المرحوم العزيز الباشا كان علما من الأعلام الوطنية العالية ومرجعا قبليا معروفا على نطاق واسع، وما ذكر إلا مقترناً بمشاعر من الإجلال والاحترام البالغين عند القاصي والداني والكبير والصغير، الذين عرفوه في رحلة حياة طويلة حافلة بكل ما هو جليل.
عرفته وجها لوجه مرتين: في الأولى، ضيفاً عليه في قبيلة الجدعان؛ وفي الثانية، زائراً له في فراش المرض في القاهرة. ومع الفارق الشاسع في حالته في المرتين لكنه كان في كلتيهما، ذلك الباشا الذي ينضح وقاراً، هيبةً، جلالاً، حكمةً، نبلاً، شهامةً... لعل ما أربكني وأدهشني في زيارتي له على فراش المرض أنني كنت أتصور من سابق شرح لحالته المرضية أنني سأجده شيخاً هدّه المرض وضعضع كيانه البدني والنفسي. لكنه ولشدة مفاجأتي كذَب تصوري، صحيح أنه كان عبارة عن جلد وعظم لكنه كان أكثر تألقا ومرحا ومداعبة من زيارتي السابقة له ضيفاً. كنت أنظر إليه وأطأطئ رأسي مراراً؛ انتابني شعور أنني أقف أمام أسد مهيب ينبعث منه نور الرهبة والمهابة. لا أخفي أني شعرت بخوف أمام ما جسدته شخصية الرجل أمامي من وضع لا يجسده مريض بل يجسده شخص في كامل قوته وتألقه. كان يتمالك نفسه دون تكلف ليبقى منتصباً شامخاً مع تجاذب رقيق لأطراف الحديث.
ثم زرته مرة أخرى بعد أيام مع عائلتي الى شقته التي نزل بها بعد مغادرته المستشفى. كان طريح الفراش وحوله أبناؤه وأقاربه، ومع ذلك أصرّ على عدم التخلي عن أصالته وكرمه وترحيبه؛ فشل المرض فشلاً ذريعاً في جعله يتخلى أو ينسى ذرةً ولو صغيرةً مما كان عليه طوال حياته.
لست هنا بصدد تسجيل ملامح من سيرة حياة الرجل فذلك مجاله غير هذه العجالة. وإنما أكتفي بمرور خاطف على بعض من أبرز مراحل حياته وكفاحه.
الباشا، سليل أسرة عريقة ومقاومة للغزو الخارجي منذ الأتراك.
الباشا، قاوم نظام حكم الإمام أحمد رحمه الله، مقاومة قل ان نرى مثيلا لها في أشكال المقاومات الأخرى. خرج من السجن عنوة وبقوة السلاح عام 61م تقريبا وكان ذلك أمراً مهولاً بالنسبة لنظام حكم لم يعرف مثل تلك الأساليب البالغة الشجاعة والجرأة وكانت معول هدم لنظام تهاوى.
الباشا.. يمم وجهه صوب شريف بيحان ليستمد منه عوناً في مقاومة نظام حكم الإمام. لكنه لم يأت الشريف خانعاًُ ذليلاً بل كان، كما عرف عنه، شامخاً أبياً يتحدث ويحدد موقفه نداً لند!!.
الباشا، كان يعشق العزة والشموخ والإباء ولهذا ما كان قادراً على ان يدخر مالاً ليكتنزه او للثراء الشخصي، بل كان كريماً الى حد بات مضرب الأمثال.
الباشا.. كان من أولئك الزعماء والقادة الذين يصح فيهم قول الشاعر بحق: "يغشى الوغى ويعف عند المغنم". كان صانعاً للأحداث وليس لاهثاً وراءها او مستغلاً لها ولهذا فقد استحق عن جدارة ذلك الحب الذي أحاطه به قبائل اليمن ورجالاتها الشرفاء، والتقدير الذي بذلوه له طواعية وعن قناعة.
الباشا.. لو أراد جاهاً او سلطاناً فمنذا الذي كان ينافسه في ذلك!؟ كان مؤهلا وكان جديرا، لكنه احتقر الكراسي والسلطان وعشق الشموخ والإباء. كان ينظر إلى الكراسي والسلطان على أنها مفسدة الرجال. وهو الذي وضع رأسهُ على كفه في سبيل المبدأ والأصالة والشموخ والنقاء، أذاب ذاته في قومه وربعه وأذابهم في ذاته، فكان هو هم، وهم هو، ذلك هو قدر الرجال العظام وهكذا كان الباشا رحمه الله.
عاش الباشا حياته الطويلة الحافلة كالصقر: لا يعيش إلا في الأعالي شامخاً يحتقر الدنايا ورحل بذات الشموخ متألقاً كريماً. بكته جموع الذين عرفوه وخلدوه قيماً ومبادئ، شهامةً ورجولةً.
إن حياة بتلك القيمة لجديرة بأن تؤرخ وذلك ما ينبغي العمل لأجله.
وداعاً أيها الشيخ الجليل!
وداعاً أيها الشيخ الكريم!
وداعاً أيها الشيخ الأبي!
وداعاً أيها الشيخ الإنسان! الى جنة الخلد في ظل رحمة الله الواسعة، الى جنة الخلد راضياً مرضياً حتى نلحق بكم إن شاء الله تعالى.
 
 
 
***
 

«حاتم اليمن» الذي رفض نظام الرهائن - حسين العجي العواضي
 

توفي شيخنا الكبير بعد رحلة عمر طويلة حافلة بأنبل وأعظم المواقف التي عرفت عنه.
الباشا الثائر المتمرد على الظلم والطغيان، الذي ينشد الحرية والمساواة ويقتحم في سبيل قناعاته وقيمه براكين الموت غير آبه بما يترتب على تلك المواقف والمبادئ. هو الباشا الكريم المعطاء الذي ينفق بلا حساب ويجود بلا منّ ولا رياء. رجل يعطي عطاء من لا يخاف الفقر الى ان صار مضرب الأمثال في سنين القحط والخير وفي عهد الرخاء والشدة. ملأت سمعته وكرمه اليمن وفاضت سمعته وشهرته جزيرة العرب حتى لقب بحاتم اليمن، وقد قيل في كرمه القصائد والأشعار وجرت تتحدث بذلك الأمثال المشهورة في اليمن وشهادات رجال اليمن.
بن زبع هو الرجل المصلح صاحب الأيادي البيضاء، والفزعة في إطفاء النزاعات وحقن الدماء، والإصلاح بين الناس بما عرف له في أوساط القبائل من الصدق والنقاء والجهر والحرص على القريب والبعيد.
نبذة عن حياة الشيخ المناضل
> ولد عام 1912 في منطقة آل زبع - الجدعان بمديرية رغوان، محافظة مأرب.
> تلقى تعليمه الأول في "كُتَّابـ" قريته ثم أكمل تعليمه على يد معلميه حيث تلقى على أيديهم نصيبه من العلوم الدينية والدنيوية في سجن الرادع.
> ترعرع في كنف والده الشيخ ناصر بن زبع الذي كان من أبرز مشائخ المناطق الشرقية آنذاك.
> عرف الشيخ الباشا في حياة أبيه مقداماً في قومه مشهوراً بعطائه.
> برز الفقيد أكثر بعد أن حل مكان والده الذي توفي في منتصف الأربعينات في عهد الإمام يحيى حميد الدين.
> دخل معترك العمل الثوري المضاد للنظام الأمامي خاصة مع بداية عهد الإمام أحمد وكان هو وأخواه المناضلان صالح بن زبع، وناجي بن زبع، رحمهم الله جميعاً، نواة عمل قَبَلي غير منظم في منطقتهم التي عانت من ظلم وقسوة المرحلة شأن بقية مناطق الوطن.
الفقيد وإخوانه في موكب الثورة
> رفض الفقيد وإخوانه تسليم أحد إخوانهم كرهينة كما كان معروفاً في نظام الرهائن. وكذلك رفض دفع واجبات المنطقة للإمام بل أذن للناس أن يمونوا أسرهم من "الشونة" وهي مخازن الإمام التي كانت تضم واجبات المنطقة, وكانت تحت إشراف والده، وأمر بفتحها للمواطنين في سنة قحط.
> أمضى عقد الخمسينات مناضلاً جسوراً في مواجهة الإمام أحمد، وشجع القبائل على التمرد، وتنقل في تلك الفترة بين المعتقلات وسجون الإمامز فيما كان أخوه المناضل الشيخ /صالح بن زبع يقضي قرابة تسع سنوات بين سجني: "غمدان" بصنعاء، و"القلعة" بحجة، على خلفية مواقفهم المعارضة ولجوء أخويه الباشا وناجي في الجنوب اليمني.
> ومن منفاه الأول الذي ظل متنقلاً فيه بين جنوب اليمن والمملكة العربية السعودية عاد ليجد حكم الإعدام في انتظاره وهو قابع في سجن "الرادع" الذي أودعه فيه الإمام متنصلاً من وعده بالعفو عنه. تمكن الفقيد من الخروج من السجن بقوة السلاح في بادرة هي ربما الأولى في تاريخ عهد الإمام احمد. وبعدها التجأ ثانيةً إلى إمارة بيحان ومحمية عدن, وكان قبلها قد تمكن من الحصول على دعم إمارة بيحان لبعض قبائل المناطق الشرقية هو ورفيق دربه المرحوم الشيخ / احمد علي الزايدي أحد كبار مشائخ ومناضلي المنطقة الشرقية (قبيلة جهم).
> بعد قيام الثورة عاد من منفاه الأخير وناصر الثوار وقضى فترة عمل حافلة بالمواقف البطولية والإصلاح بين القبائل.
> شغل منصب عامل (مدير) في منطقته في بدايات الثورة، ثم عضواً في مجلس الشعب التأسيسي من العام 1978م – 1988م.
> له 9 من الأبناء: 6 ذكور (صالح، عبد الوهاب، ناجي، أحمد، علوي، وعبد الرب) و3 إناث.
> له 56 من الأحفاد: 31 ذكراً، أكبرهم ناجي عبد الوهاب الباشا، و25 إنثى.
لقد كان الراحل ثورة متحركة تجسدت في شجاعته وجسارة مواقفه ورفضه للضيم وظل على هذا العهد حتى لقي ربه, ولم يعرف عن هذا الثائر مهادنة للنظام، قرابة قرن من الزمن عاصر فيه الإمامين يحيى وأحمد وخمسة رؤساء جمهوريين.
ما أوردته هو بعض مما عرفته عن المرحوم قبل وفاته او مما جمعته عنه من أهله وأصدقائه وقد ركزت على أهم المواقف والأحداث بشيء من الإجمال دون الدخول في التفاصيل فالمقام هو مقام تأبين وليس مقام كتابة سيرة الفقيد.