الهرم الرابع في أزقة الحسين ولقاء المفاجأة

مزن مرشد
مزن مرشد (ارشيف)

الهرم الرابع في أزقة الحسين ولقاء المفاجأة - مزن مرشد*
أول زيارة كانت لي هناك، لقهوة سميت باسمه.
أشاروا بأصابعهم يرشدونني إلى الطاولة التي كان يجلس إليها، ويكتب في ركنه الخاص لساعات طويلة، بالرغم من صخب المكان وازدحامه بالناس والدخان، وشعبيته المفرطة. إلا أن هذا الجو كان يمده بالإلهام لا العكس.
في حي الحسين وعلى امتداد أزقته وحاراته المتصلة يلاحقك الصبية الصغار ليدلوك على الأزقة منادين:
"هنا زقاق المدق يا هانم، ومن هنا يبتدي قصر الشوق بتاع محفوظ"، وكأن المدينة نسبت إليه.
نجيب محفوظ ابن الأربعة والتسعين عاما، وما يزال يتلمس أطراف الحياة ليبقى متواصلا مع من أحبوه وسيذكرونه دائما كأنه الهرم الرابع من أهرام مصر.
لم أتصور أنني من الممكن أن ألقاه يوماً. ولم أتصور أن يكون اللقاء مؤلماً إلى هذا الحد.
ولم أستغرب هذا الحزن الذي انتابني عندما رأيت بقايا نجيب محفوظ الأسطورة: جسد منهك، سمع شحيح، ونظارات تحمي تلك العينين اللتين رافقتاه كنافذتين مخلصتين يطل عبرهما على العالم ليرسم بعدها عالمه الخاص، عالم نجيب الذي يختصر تاريخا بين صفحاته.
محاولة اغتيال فاشلة لم تنجح في سلب الحياة، لكنها نجحت في سلب القلم وترك صاحبه مثل محارب مجرد من سيفه يحارب الريح بروحه فقط.
أصدقاء أعزاء هم الشاعرة والمترجمة السيدة فاطمة ناعوت، والشاعر المعروف الأستاذ حلمي سالم، ومعهما الصحفي والكاتب والناقد أسامة عرابي، وعدوا بمفاجأة خاصة لي وللشاعر السوري الصديق عارف حمزة، ولم أعلم ما هي هذه المفاجأة إلا حين وصلنا إلى مدخل بناء في منطقة "المقطم"، وقالوا: تفضلوا، فاحتججت أنا على زيارة البيوت، فمن يزر القاهرة لا بد أن يستغل كل ثانية ليعيش مع نيلها وحاراتها دون أن يسمح للوقت أن يأخذه من هذا الجو البديع ولو للحظة، لكنني أصبت بالذهول عندما قالوا لي: ديه ندوة محفوظ!!!
نافذة على العالم
كالعادة كل ثلاثاء يجلس الأستاذ أسامة عرابي بجانب الكبير نجيب محفوظ، ويقرأ له بصوت عال العدد الأخير من "أخبار الأدبـ" جريدة الأستاذ نجيب المفضلة لأعوام طويلة وحتى اليوم، ثم يستعرض له أهم العناوين الأدبية في الصحف. ويومها قرأ الأستاذ عرابي مقالا عن رواية "الحرافيش" كتبه صاحب جائزة نوبل الكاتب الجنوب أفريقي، كويتزي.
وعندما يفرغ من القراءة، يحضر فنجان قهوة الأستاذ، الوحيد في اليوم، مثل وصفة طبية في موعده المحدد، بالرغم من منع الأطباء، لكنه لا يشربه مثلنا، بل يضطر لأن يرشف منه رشفة واحدة كل نصف ساعة.
أصر الأستاذ الكبير على أن يبقى متواصلا مع العالم رغما عن الأطباء ورغما عن رجل الأمن الوحيد المرافق له ليل نهار حاملا جهازه اللاسلكي حرصا على سلامة الأستاذ من عدم التعرض لاغتيال جديد.
إلا أنه فك حصاره بندوة يعقدها كل ثلاثاء يتجمع فيها الروائيون والكتاب والصحفيون وفئات مختلفة ممن أحبوا نجيب وكبروا على إبداعه.
بعد انتهاء طقس الافتتاح جلست إلى جواره أخذت أسأله بصوت يشبه الصراخ ولا يكاد يسمعه عن سورية وعن دمشق. قلت له:
> هل زرت سورية؟
- للأسف، لا.
> لماذا؟
- خرجت من مصر مرتين فقط في حياتي: مرة لليمن، ومرة إلى إحدى الدول الاشتراكية... من زمان!
> لمن تقرأ من السوريين؟
- أحب ادونيس جداً وقرأت له كثيراً، وقرأت أيضاً لحنا مينة وبس.
وحاولت أن أسأله أكثر إلا أن طبيبه تدخل معتذرا لي بأن وضع الأستاذ الصحي لا يسمح أن يتحدث أكثر من ذلك، وفقط لأنني صحفية من سورية والأستاذ يحب سورية سمحوا له بهاتين الكلمتين.
لم أعترض لكن الحزن عاد إليَّ من جديد عندما احتج الطبيب مرة أخرى على التصوير لأن فلاش الكاميرا يؤذي عيني الأستاذ نجيب ويجعلهما تفيضان بالدمع لمدة ليست بالقصيرة، ومع ذلك سمح لي أن ألتقط بعض الصور وفقط لأنني من سورية، مما جعلني ممتنة أكثر لهذا الانتماء الذي لا أجد معنى للحياة لولاه.
في الغرفة المجاورة حيث جلسنا لنفسح المكان بجانب الأستاذ لقادمين جدد، التقيت بالرجل المكلف بحماية الأستاذ، وجهازه اللاسلكي يواصل أنينه المعلن عن عمله
> سألته: هل أنت سعيد بمرافقتك للأستاذ؟
- الأستاذ يعاملني كأني ولده، ودائما يسألني إن كانت مرافقتي له ليل نهار تزعجني، لكني لا أدري ما هو شعوري بالضبط، لا أستطيع أن أقول أني سعيد.
> هل قرأت روايات الأستاذ؟
- لا
> ولا واحدة؟
وهنا لا أدري لماذا أجابني بحنق.
- أنا عمري ما قريت حاجة.
فقلت له: أحسن برضه، برافو عليك.
عدت إلى الداخل لأجد الحضور مستمرين بتواصلهم معه بأحاديث الأصدقاء مع الحفاظ على لقب الأستاذ، وكل منهم يقرأ ما عنده من شعر وقصة أو أجزاء من روايات جديدة.
لا أدري كيف انتهت الساعات الثلاث بصحبة أكبر عمالقة الأدب العربي وآخرهم، وعند الرحيل سمعت صوته الضعيف يقول لي: وينك يا سورية؟
قلت: نعم.
قال: سلمي لي على سورية، يبدو أني لن أزورها أبداً.
[email protected]
* كاتبة وصحفية من سوريا