التعريفات.. الملكوت

التعريفات.. الملكوت - أبوبكر السقاف

سلطة الله العليا، أسمى ما في عالم الأفكار والإرادة والأمر عنده، وكذلك عالم أسراره الإلهية. وللكلمة التي ترد في القرآن، أصول آرامية تدل على السلطة العليا لله، وهي رتبة تقابل السلطة في دنيا الناس، وهي دنيوية عادية (الأنعام 75، يس 83، المؤمنون88، الأعراف185). ويرتبط بالملكوت عادة الجبروت، وكلاهما لا يمكن إدراكهما بوساطة الاحساسات الإنسانية، ولكن بصورتها القائمة في عالم الأشياء الدنيا. وهما يتصفان بالكمال والدوام، وفيهما علم بالحاضر والمستقبل. وكثيراً ما يستخدم عالم الملكوت مترادفاً مع الملك. أما الجبروت فله مكان وسط بين الملكوت والملك. وبوساطته تتحقق الأفكار في عالم الملك.
وقد تعقد مفهوم التراتب في عالم الملكوت بتأثير المصطلحات الأفلاطونية، والأفلاطونية المحدثة. فقد أصبحت المصطلحات: الملكوت، والجبروت والملك، تعني الثلاثي الأفلاطوني: العقل والنفس والعالم المادي.
فالفارابي وأبو طالب الملكي وابن سينا، يستخدمون هذه الكلمات الى جانب مصطلحات أخرى كثيرة، فأصبح الملكوت العقل الأول والروح القدسي، والجبروت النفس الكلية، والأمر، ونجد عند هؤلاء المؤلفين وغيرهم أن الملكوت يكون مترادفاً والجبروت. والعكس فلم يستقروا على اصطلاح محدد صارم.
وقد قدم الغزالي لوحاً أكثر إتساقاً فقسم الوجود إلى مستويات أو قوى:
الملكوت: الجواهر والمعاني. الجبروت: عالم الروحانيات وما يمكن أن يكون في حكمها. الملك: عالم المادة الذي يدرك بالحواس. وقد أصبح هذا التقسيم أساساً لصورة يتوازى فيها بنيان العالم وبنية الإنسان العضوية: العقل -الملكوت، النفس -الجبروت- الجسد- الملك، من ناحية، وعالم المثل الأفلاطوني الخالد من ناحية أخرى. والمعرفة الحقيقية عند الغزالي هي العرفان (غنوسيس) الذي يجده العارف. وهو يتفق مع الصوفية ويقول معهم بالكشف والمكاشفة. وثلاثية الغزالي هذه يمكن اعتبارها محاولة لتصوير مراتب الفيض الذي يصدر عن الواحد في فلسفة ألفوطين. وتتأسس مدرسة الإشراف على فكرة الفيض.
بيد أن الغزالي لم يتخل عن هذه الصورة ويجعل الجبروت عالم الملائكة المقربين حيث اللوح المحفوظ فوق الملكوت، حيث ملائكة أقل رتبة وأرواح من مستويات دنيا. ونجد هذا الخلط بين الملكوت والجبروت والملك عند كثير من المتصوفة.
أما عند شيخ الاشراف السهروري المقتول (حكم صلاح الدين الأيوبي)، فلا وجود لعلاقات محددة بين الملكوت والجبروت، فأقام بينهما ضرباً من الكفاءة «المتساوي» فهما وجهان لواقع واحد. فالذوات النورانية، هي الملكوت والجبروت، إرادة الله التي يحيط بكل شيء وكل آخر.
يستخدم ابن عربي مصطلحي الملكوت والجبروت على طريقته الخاصة، فأحياناً يجعل الجبروت مجلى لجوهر الله في صورة الأسماء والصفات أعلى مقاماً من الملكوت. ففي مذهبة في وحدة الوجود يجعل هذا المصطلح مجالاً لتجلي الحقيقة الإلهية التي يسميها «حضرة» وبكلمات القرآن عند المتكلمين «اللوح» و«العرش»... إلخ. ويقوم البرزخ بدور كبير في مذهب ابن عربي.. عالم المثال وهو نظير الجبروت عند الغزالي. ويتسم عالم البرزخ بصفتين متناقضتين هما وجهان لواقع واحد فهو في وقت واحد مفارق ومادي.
ففي عالم البرزخ الإنسان هو «العالم الأصغر» وهو الحامل لمبدأين في المستقبل: مبدأ إلهي (مثالي) ومبدأ إنساني مادي (سنورد تفصيلاً في تعريف: لاهوت/ ناسوت). وهو وفقاً لابن عربي يجسد تجسيداً كاملاً صفات هذا الواقع، الذي يتأمل فيه نفسه كما يرى في مرآة. يرد مصطلحات «الملكوت» و«الجبروت» و«الملك» كثيراً في تفسير القرآن عند علماء الكلام من السنة والشيعة والصوفية. ورغم التنوع في استخدامها، فإن المعنى الاساسي عندهم يظل كقاعدة ثابتاً وغير متغير.
من المراجع:
الغزالي، «مشكاة الأنوار»، مصر 1322ه. الشريف الجرجاني، «التعريف» ص 156-157، ابن عربي «فصوص الحكم» 100-213. (لو صحت نسبة «مشكاة الأنوار» إلى الغزالي فإنه في هذا السياق متأثر بمدرسة الاشراف الصوفية، وهو يرفض الحلول في غير نص، ولذا يرى الراحل د/ محمود قاسم أن بعض نصوص «مشكاة الأنوار» مدسوس عليه. انظر ان شئت كتاب «دراسات في الفلسفة الإسلامية»، ط الخامسة 1973، دار المعارف القاهرة، الفصل الثاني).