ضِرب من الجنون أن يستمر العابثون في غيهم

ضِرب من الجنون أن يستمر العابثون في غيهم - يحيى سعيد السادة

على غرار اليوم العالمي لكل المسميات المصاحبة لحياتنا الرتيبة من حقوق الإنسان وحقوق الطفل وحقوق المرأة وحق اللاجئين في العودة وبقية المستحقات الإنسانية التي هي في الغالب مجرد حروب ما إن تلتئم في اليوم المخصص للإحتفاء بها لتصبح لفظاً ذا دلالة واهتمام من الساسة ورجال الفكر وحملة الأقلام حتى تتبعثر من جديد لدرجة التماهي والإختفاء عن الذاكرة على مدار العام.
 الحالة الاستثنائية لتلك المسميات والتي يجب أن تحفر في ذاكرتنا كما هي حالات الفساد والفوضى والعبث الملازم لحياتنا على مدار الساعة، هو اليوم الوطني لحقوق العاطلين والذين يجب أن نحتفي به يوماً واحدا في الشهر من خلال استقطاب وتحويل كل ما ينهب من قبل المسؤولين من مال عام أو خاص في هذا اليوم بحيث يخصص لملايين الفقراء والعاطلين من الخريجين والنازحين من الريف قسراً إلى المدن تحت وطأة الفقر والجوع، ليتمكنوا ولو بالحد الأدنى من مواجهة الأعباء المعيشية بغية البقاء على قيد الحياة، السؤال المطروح حيال هذا المشروع إذا ما قدر لهذا اليوم أن ينظم إلى قائمة المسميات، هل سنجد هؤلاء المسؤولين في هذا اليوم وهم بنفس الفاعلية والنشاط في نهب عامة الناس واختلاسهم كما لو كان الأمر متعلق بمصالحهم وبمضاعفة أرقام حساباتهم! هل سنجدهم بنفس اللياقة البدنية التي مكنتهم من السطو على الجبال والهضاب والتلال؟ أم سنفاجأ بهم وقد تنكروا بثياب القساوسة والرهبان وعمائم الأزهر، كل منهم قد أطلق لمسبحته العنان متمتماً بالمعوذات مردداً، اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة بغية تضييع الوقت وتأجيل الهبر إلى اليوم الذي يليه، كل شيء جائز في هذا البلد وكل شيء ممكن في أخلاقيات هؤلاء، هذا اليوم المستقطع من دخول المتسابقين في مضمار الثراء غير المشروع لن يؤثر على مراكزهم المالية أو أصولهم الثابتة فهو مجرد قطرة ماء في محيط، وبالرغم من أن هذا المال المستقطع هو مال حرام إلا أن الضرورات تبيح المحظورات، إذ لا يبدو في الأفق أي بصيص أمل لقرب حل مشكلات المهمشين، وبالذات حملة المؤهلات القابعين في منازلهم لأكثر من ثماني سنوات في انتظار الدرجات الوظيفية كون الوظيفة الحكومية هي الأمل الوحيد لهؤلاء في ظل عدم فاعلية القطاع الخاص وعدم قدرته في وضعه الحالي على استيعاب ولو جزء من مخرجات الجامعات والمعاهد المتوسطة كما هو الحاصل في كثير من الدول سواء المتقدمة أم غيرها، حيث يلعب الاستثمار المحلي والخارجي دوراً رئيسياً في استقطاب كثير من القوى العاملة يفوق قدرة القطاع الحكومي الذي لا يستطيع بمفرده أن يستوعب كل المخرجات، وإلا تحولت ميزانية الدولة بكاملها إلى الباب الأول المتعلق بالمرتبات والأجور مقابل إهمال الجانب التنموي، لذا نجد أن مشكلة هؤلاء ستستمر وخاصة على المدى المنظور طالما ظل نشاط الدولة محصوراً في الوظيفة الروتينية دون التطلع إلى مشاريع استراتيجية قادرة على شفط عشرات الآلاف من التخصصات ومن القوى الأخرى اللازمة لتلك المشاريع، كبناء قاعدة صناعية ضخمة سواء في مجال الصناعات الاستخراجية أم التحويلية واستصلاح الأراضي القابلة للزراعة وبناء مرافق سياحية متعددة، إلى جانب تشجيع القطاع الخاص وإعطائه التسهيلات اللازمة وحمايته من اللصوص المشاركين له بالأسهم دون أية مساهمة مالية.
لذا لا حل لمشاكلنا ولا خروج من مأزقنا ما لم يترجم خطاب الأخ الرئيس بإعلانه الحرب الشعواء على الفساد والمفسدين، إلى خطوات عملية وملموسة، وما لم يسلم العابثون بجدية هذا الخطاب وبخطورة استمرارهم في السير على هذا الدرب الوعر والشائك والذي لن يودي بهم وحدهم إلى المجهول، بل بوطن بأكمله وبكل مكوناته دون استثناء، إذ أن تهور هؤلاء في الاستمرار على الفوضى والنهب والعبث دون مراعاة للأوضاع الاقتصادية والمعيشية هو ضرب من الجنون خاصة إذا ما كان هؤلاء العابثون على دراية بموقع البلد القابع في مؤخرة قائمة الفقراء على ضوء تقرير البنك الدولي الصادر في شهر نوفمبر 2006م، وكذا نسبة الفقراء من إجمال عدد السكان على ضوء تعداد 1998م.
ضرب من الجنون أن يستمر العابثون في غيهم وبعض أطفالنا يعانون من سوء التغذية بينما البعض الآخر هجر مقعده الدراسي بحثاً عن لقمة عيش تسد جوعه.
ضرب من الجنون أن يستمر العبث في ظل العلاقة الطردية المتسارعة بين الزيادة في عدد السكان وزيادة عدد العاطلين وما ينتج عن هذه العلاقة من أعباء في مجال البنية التحتية والخدمات الصحية والتعليمية والمعيشية خاصة في ظل انحسار مساحة الأراضي الزراعية مقابل الزحف العمراني المتسارع.
ضرب من الجنون أن يستمر العبث في وقت نرى الناس يلهثون وراء قطرة ماء ترويهم وتروي ماشيتهم وزرعهم في ظل التقارير التي تشير إلى أن المياه الصالحة للشرب والمتوافرة حالياً هي في حدود 2% من نصيب الفرد في العالم، ناهيك عن انخفاض هذه النسبة في الأعوام القادمة نتيجة الزيادة الملحوظة في عدد السكان وفي ظل عدم الاهتمام بإقامة السدود والحواجز المائية خاصة في المناطق غزيرة الأمطار.
ضرب من الجنون أن يستمر العبث بموازاة الاختلال في الأداء الوظيفي نتيجة الترهل والملل الذي أصاب شاغلي الوظائف الهامة، إذ أن غالبيتهم لم يبرحوا كراسيهم لسنوات طويلة دون قدرات تذكر أو خبرات كونهم غير مؤهلين علمياً أو فاقدي القدرة على الاستيعاب باستثناء قدراتهم اللامحدودة في النهب.
لقد حان الوقت لمراجعة الذات كل يراجع ذاته من موقعه على اعتبار أن الوطن قضية الجميع، حان الوقت لوقف الاختلالات والبدء في البناء والتحديث من خلال صحوة وطنية شاملة تحفظ لهذا الوطن ما تبقى له من إمكانيات وموارد للنهوض به من كبوته ووضعه على أول الطريق للوصول به إلى نقطة التماس مع محيطه العربي على الأقل كون الوصول به إلى هذه النقطة مؤشر على عودة الروح إليه ومن ثم قدرته على الوثوب إلى مسافات أبعد.