وجه.. نصير شمة وسماء الموسيقى.. من يصعد لمن؟

وجه.. نصير شمة وسماء الموسيقى.. من يصعد لمن؟

تخيل العود جسدك وأوتاره حسك وموازينه دماغك و نغمه روحك الفار إلى بوابة السماء.. كائن يتعامل مع كائن بالإنصاف بنفسه..لا نغم يفتض خلوة الروح مثل النغم الذي يخلق في آن هذيان طوعي ورجعي بين خرائب عالم مهندس بصيغته الكاسرة لكل مألوف..
والفنان نصير شمة ولد في مدينة الكوت العراقية سنة 1963 وأنهى دراسته الجامعية في معهد الدراسات الموسيقية في بغداد عام 1986 وتخصص في العزف على العود ويعتبر الآن من ابرز الموسيقيين العرب والذي اختلف في أسلوبه المنفرد وإضفاء الكثير من الخصوصية على تجربته في العزف باستخدام طريقته الخاصة في المزج بين الماضي والحاضر بأسلوب يكاد ينفرد به على الساحة وطور آلة العود بإضافة وترين آخرين إلى الأوتار الستة المتعارف عليها متبعا ما جاء في المخطوطات الموسيقية الشهيرة للفارابي في القرن التاسع مما اتاح له أن يبدع في نغمات غير مسموعة وغير مستخدمة من قبل، وعندما قدم إلى القاهرة حقق حلمه في إنشاء فرقة (عيون) للتخت العربي ويعمل حاليا أستاذا للعود في بيت العود العربي. ويعتبر شمة نفسه متأخرا في تعلم العود مقارنة بموسيقيين كبار حيث بدا في سن الحادية عشر، ومنذ بداياته يعمل بدأب وإخلاص للمشروع الموسيقي الذي يحلم أن يؤسس له قاعدة حقيقية في الوطن العربي والعالم، واظنه نجح في ذلك، وله الفضل أيضا في استحداث طريقة لاستخدام يد واحدة في العزف وذلك لتمكين المعوقين من العزف على هذه الآلة بلا وقوف العوق عائقا أمام حلمهم.. ومن هنا تستدل على انه يعيش للنغم ولفنه بإخلاص وتفانٍ تام وهذا واضح وجلي في أعماله الرائعة وكذلك ملامح وجهه التي توحي بالذوبان في عالم الموسيقى وروح الفن الراقي...
نصير شمة هذا الاسم.. هذا النغم.. هذه الأنامل.. كتلة الإحساس المستفيضة بالنور.. هرم الموهبة المغازلة للمعادلات المنهجية..عندما تراه لا تتذكر انه عراقي.. وعندما تسمعه تصر على أن لا تتذكر انه عراقي.. فكأنما خلق ليكون رهبة كونية متاحة لكل الاحتمالات.. فهو العربي والعجمي والغربي والمستشرق ترى فيه خريطة العالم مختزلا بلحن لا تعرف انتسابه لأب فاضل رغم نبل تكوينه.. هل تستطيع ربط ما تسمع في الساحة وبين ما يقوم به شمة من اختلال لتوازن السمع والبصيرة؟؟ أنا عن نفسي لا أستطيع..
الموسيقى هذا الكائن وحيد التوجه نحو السماء،عند نصير شمة الأمر يأخذ منحى آخر فتتخيل انك في صراع نبيل بين النغم والفارس الذي يمتطي حلمه لتحقيق زرع السماء في فجوة لحن يصطاده في لحظة هاربة وتخيل بعد ذلك.. من سيصعد إلى من؟؟
طالما هناك توقع لنبات سماء أخرى في كفه الإغريقي الطابع والعراقي الانتساب فأنت مدعو لتتعرف على عصر من الفرسان والخلجان ومعاتبة الروح لتأخر تصدير هذا النبوغ إلى بوابة الوصول لجنات كان له الفضل في تحقيقها معلقة على جدار كوني..
أحيانا الحرب تعرف الرحمة أيضا.. لتحافظ على هذه الأنامل، والحمد لله، ولم تبترها كما بترت من قبل أنامل ليلى العطار العازفة على جرح الألوان والقماش وغيرها من أرواح مبدعة كانت تحاول أن تحلق فقط وتحلم برسم خارطة جديدة لعالم لن يتحقق.. وهذا ما استكثروه علينا.. يقال في المثلوجيا الشعبية إن سمات الرجل النبيل تتضح من صفة رقبته وأنا أقول إن نصير شمة تعدى كل هذه المواصفات في خلق مزيج من هم شعب باكلمه في صورة رجل نبيل يتسم بكل ضراوة روح مخملية تهلك لمجرد سماع أخبار الوطن لتستفحل عنده اللحظة قربانا نغميا جديدا على أطلال عالم متكامل من نسيج متخيل لغياب سماعي تحلق فيه الأفكار الحاضرة في ضمير المتلقي..
لا أستطيع البكاء عند سماعه ولكني لا أستطيع أيضا منع روحي من التمزق على عتبة نغمه، فكيف نحل هذه المعادلة وأي طرح علمي يفسر لي اختلاف ما اسمعه وما أحسه وما المسه والعود واحد!!
نوع الطين نفسه، يستخدمه أي فنان ليستنطق الفراغ الذي فيه وفحوى عالم ضامر، مكنون في روح الحمأة، ولكنك تجد بعض هذه الأعمال كما لو أنها تتحرك بالريموت كنترول وكما لو أن البعض الآخر قطعة منك أو من صديق صادفته يوما على جسر الحياة. السر ليس في الطين وإنما في من جبل الطين وكور ملامح العالم ونحت غبار التفاصيل في زوايا العمل المجسم.. كيف بالنغم عند نصير، وهو يطوعه مثلما يطوع مارد من عالم آخر خرافة مستحيلة التحقيق، يحققها، ونصدق ما يحقق بالرغم من تفاصيل الخرافة وندرة التواجد متجسدا أمام بصيرتنا، هو هكذا يعبر بعوده فوق رؤوسنا ليقرر لنا سماءً أرضية متفردسة على أصابع رغبة جموح تعيد إنتاج حواسنا وغربتنا إزاء ما نفهمه ونسمعه، ونحن نسمح له بان يكون دليلنا إلى مخارج الحروف المناصرة لإيقاع مختلف..
مريم.. الأميرة.. حب العصافير.. ليل بغداد.. رقصة الخيل.. التأمل.. ورحيل القمر..و أنغام..أنغام.. أعمال لن تتوقف عند منعطف بعينه، إذ هي لا تعرف الحدود والاقتصاد في سلب راحتنا الموتية وفي إحياء علوم الحس فينا.. لن يتوقف هذا الفتى المغادر من أشور إلى اشبيلية عن منح أسماء وأسماء لسماواته المتعددة.. ولن نتوقف نحن أيضا عن إصرارنا على حقيقة أن نصير شمة ليس عراقيا فحسب، رغم ما تؤكده بطاقته الشخصية، إنه أمر أشبه بنزول آدم إلى أرض فيما انتسابه محفور أبدا في السماء التي انتسابها يبقى له هو وحده.، هكذا ليولد السؤال: من يصعد لمن؟!!

منال الشيخ