مبارزة بلد قوي مع 18 جثة محترقة

مبارزة بلد قوي مع 18 جثة محترقة - عبدالعزيز المجيدي

بدلاً من فتح تحقيق في الجريمة، ذهبت السعودية إلى ما يشبه تبرير ارتكابها: نشرت تقريراً وضع الجالية اليمنية في المرتبة الأولى من حيث نسبة ارتكاب الجرائم من بين أكثر من عشرين جالية
لا يحتاج بلد ممتلئ بالنفط كالسعودية للمبارزة مع 18 جثة محترقة. عليه أن يصغي لمنطق العدالة والتفكير جدياً بسؤال: لماذا لا نعاقب تلك الطريقة الوحشية في التعامل مع 18 بني آدم!؟
يثق اليمنيون تماماً أن السعودية تملك إمكانيات هائلة للإشتغال على النفي المكرور لجريمة أقترفها رجال أمن سعوديون ضد يمنيين عزل يبحثون عن رزق.
 لكنها في ذات الوقت لن تستطيع طمس معالم الجريمة التي يتصفحها عشرات الآلاف على مواقع النت الآن.
بدلاً من الانخراط في حبك روايات زائفة للحادثة أو اللجوء إلى الفذلكة، كان الأفضل إبداء التجاوب وفتح تحقيق في الأمر. خطوة كتلك لا تنتقص من قدر البلد، بقدر ما تجلب له الاحترام.
حين اقترف رجال الأمن السعوديون تلك الجريمة الشنيعة نهاية مارس الفائت بصب البنزين على مخبأ لمتسللين (عددهم 18بعد تمكن 7آخرين من الفرار) لم يكونوا بالتأكيد في مهمة وطنية. ولا صلة للأمر بمقتضيات مطاردة المهاجرين غير الشرعيين. لقد كانوا في مهمة مع «الشيطان» لتشويه صورة بلدهم ورسم صورة متوحشة لهم في وجوه الضحايا وأجسادهم.
وحشية كتلك حيال مواطنين أشقاء، وإن دخلوا البلد بطريقة غير شرعية, تستحق تعاملاً مسؤولاً رادعا يترفع عن اختيار «المجادلة» كطريق لتبرئة المجرم.
عندما كشف الصحفي الأمريكي الشهير سيمورهيرش عن وحشية الممارسات ضد المعتقلين في سجن أبو غريب, فضلت السلطات الأمريكية الغازية فتح تحقيق أدى إلى محاكمة المتورطين في الجريمة.
هذا ما فعلته الدولة المصنفة دينياً لدى الأشقاء «كافرة». رغم ذلك هي صديق سياسي ينبغي الإصغاء إليه بإمعان في كل شيئ، إلا ما يخص الرفع من قيمة الإنسان وحقوقه.
سواء كانت الإجراءات التي اتبعها الأمريكيون مكافئة للجرم أم لا، فالمهم هو اعتبار الأمر جريمة. وقبل سنوات خضع أفراد أمن أمريكيون للمحاكمة بسبب استخدامهم الكلاب البوليسية ضد مهاجرين من المكسيك. هكذا تتعامل الدول مع الحقوق الانسانية داخل حدودها دون الحاجة للتلفع بشكل ديني مفرغ من كل شيء جيد.
لم يكن الضحايا اليمنيون بحاجة لتعامل استثنائي كأشقاء أو مسلمين في بلد يتخذ من شعار التوحيد علماً له.
كانوا يحتاجون إلى النظر إليهم كآدميين يستحقون تعاملاً لائقاً،حتى وفق حقوق المجرمين التي يقرها العالم. هل عرفتم الآن لماذا صورة المسلم لدى الآخرين بتلك التشوه!!
آخر فذلكات «الجرم المكابر» ذهاب السلطات الرسمية في السعودية إلى سوق ما يثبت الجريمة البشعة كما لو كان تبريراً لارتكابها.
مطلع مايو الجاري نشرت وزارة الداخلة تقريراً عن جرائم الجاليات الوافدة في السعودية.
حسب نص في صحيفة الرياض فإن الدراسة نفذت بتوجيهات وزير الداخلية الأمير نائف المعروف بمواقفه غير الودية تجاه اليمنيين.
رداً على النشر الواسع عن الجريمة التي أخذت تحصد تفاعلاً حقوقيا دولياً، وضع التقرير الجالية اليمنية في المرتبة الأولى من حيث نسبة ارتكاب الجرائم بين أكثر من عشرين جالية.
هكذا دفعة واحدة صعد المغترب اليمني إلى الرقم واحد متجاوزاً اعتى شبكات الإجرام التي حملت عليها الصحافة السعودية طيلة سنوات وتنتمي لبلد آسيوي. هذا مشهد انتقامي عربي لا يتورع عن التستر على الجريمة فحسب، بل ومضى إلى التلويح بورقة العمالة لديه كورقة ضغظ ليس في مواجهة مطاب رسمية, بل في مواجهة الصحافة الحرة.
لا يمكن لبلد كالسعودية اعتاد العبث ب التفاصيل اليمنية، أن يطور من طرق تعاطيه مع الرعايا اليمنيين والبلد برمته.
لدي قناعة راسخة أن قيمة المواطن خارج بلده هي حصيلة قيمته وكرامته في الداخل. هذه هي المعادلة الطبيعية في المسألة، فكيف إن كان الطرف الآخر يتعامل مع جيرانه كحديقة خلفية، وفي لحظات كثيرة كان أكثر الاطراف اجتهاداً في تنسيقها وترتيبها، وأحيانا"قص" بعض التطلعات التي لم ترقه.
بالتوازي مع إصرار السعوديين على نفي الجريمة, كانت صنعاء مسرحاً للصمت المريب.
اكتفى رئيس البلد بالتعامل مع القضية كفاعل خير، حيث احتفت وسائل الاعلام الرسمية بخبر توجيهه بمساعدة الضحايا. ولم تنشر الخبر الأصل عن الواقعة.
أحزاب المعارضة حتى الآن لا تفضل الخوض في هذه الجريمة وظهرت على قناعة تامة بأهمية "التكتكة" حتى لا تغضب «الشقيقة الكبرى» وإن كان الثمن ضحايا سيعيشون بجثث نصف متفحمة.
في هذه الحالة كما حالات أخرى تخص «الكرامة الآدمية لليمني" في الداخل والخارج صامت المعارضة حتى عن النواح المحتج ببيان.
 ما الذي يجبر إخواننا «العربان» إذاً على التعامل المحترم معنا كشركاء جوار ومصير ومنافع متبادلة لا تباع؟
انغماساً في جملة "المزايا" يدفع اليمني لقاء الحصول على «فيزا» عمل مبلغاً يصل إلى 15 ألف ريال سعودي خلافاً لبقية الجنسيات، وثمة شروط مشددة يتوجب عليه توفيرها اتبداء من صنعاء: أهمها إخضاعهم لفحوصات خاصة بالكبد.هذا الشرط مازال فعالاً في منع المئات من السفر.
يحدث هذا في اليمن فقط. إنه البلد الذي لا تكترث سلطته أبداً لتحسين ظروف عمله فضلاً عن معيشتهم المدمرة أصلاً.
 لكن بلداناً أخرى كانت أكثر حسماً في مواجهة الشرط السعودي: مصر مثلاً قررت التعامل مع السعوديين بالمثل، فاضطرت الأخيرة إلى إلغاء شرط فحص الكبد. بالمناسبة: تتحدث تقارير طبية سعودية عن انتشار اخطر أنواع فيروسات الكبد (c) بين السعوديين. يعني العملية نخيط و عنطزة لا أكثر.
المشكلة ان المسؤول في اليمن ينظر إلى وظيفته كمكافأة شخصية. ويتحول الموقع إلى وسيلة إدرار مغانم. على أساس ذلك ينشغل الجميع عن أداء مهامه الموكلة إليه ويصير المواطن الخاسر الأكبر.
على الدوام كانت العمالة اليمنية أحد أهم الغائبين عن اهتمامات السياسة الخارجية اليمنية.
اليمني وحده الآن محظور من دخول بلدان مجاوره كالإمارات وقطروعمان. في الوقت نفسه تروج السلطة لما تسميه العلاقات الحميمة مع هذه البلدان.
ربما بالفعل هي حميمة على المستوى الشخصي لقيادة البلد غير أن مهمة أي مسؤول: العمل على خلق علاقات نافعة لشعبه. وإلا ما الفائدة من تلك الاسطوانة المقززةعن«العلاقات الحميمية الدافئة».
لا أعتقد أن اللوم يصب بالأساس على تلك الدول. إن ما يحدث نتاج أداء يمني فاشل بامتياز. عندما وقعت اليمن اتفاقية جدة مع السعودية لإنهاء الخلافات الحدودية عام 2000، لم يكن المفاوضون من «جانبنا» مهتمون للميزة التي وفرتها اتفاقية الطائف للعمالة اليمنية.
ذهب البند خارج المفاوضات، فانتهى آخر أمل بغطاء رسمي يحمي هذه الشريحة المهمة اقتصاديا.
وقتها برر عبدالقادر باجمال التفريط بهذه الميزة رغم أن الفرصة كانت ذهبية لتحسين أوضاع العمالة اليمنية بالقول: الجغرافيا ثابته والتاريخ متغير. والاثنان بعد التوقيع كانا يتغيران بشكل كبير: التاريخ والجغرافيا.
الآن تتحدث معلومات عن ضغوط تمارس على الضحايا ال18 للتنازل مقابل مبالغ مالية. ماذا لو كانت الضغوط من قبل الأجهزة الرسمية تمارس في الاتجاه الآخر؟!
المهمة الواجبة على الهيئات والشخصيات في أي بلد تتحول في اليمن إلى أمنية. بسبب ذلك هل تدركون كم يخسر البلد يومياً من كرامته!!
من حق الضحايا الحصول على التعويض العادل. ذلك لن يسقط الجناية. قد تصبح شيئاً من الماضي بالنسبة لليمنيين. غير أنها لن تمحى من سجلات المنظمات الحقوقية.
حتى إن كان بلداً بقوة 12 مليون برميل نفط يومياً, فلن يفلح في مداراة «هولوكوست» مروع، ومستفز لأي سوية إنسانية.
aziz_ziMail