ثقافة الحصانة و«نظرية الإذلال»

ثقافة الحصانة و«نظرية الإذلال» - أبوبكر السقاف

>  تلغي ثقافة الحصانة، التي ترتكب بهديها وحمايتها الجرائم، مبدأ المساواة بين المواطنين وإن كانت هذه الصفة غير مطابقة لواقع الحال إلا باعتبارها إمكاناً منشوداً، وهي بذلك مثل الوطن، الذي يتعذر تصوره بدون مواطنة. إننا لم نحقق بعد الاندماج الوطني الذي هو الأساس المتين للمواطنة والوطن
إذا لم نتجاوز السد الذي يحجب الحرية والحق والحقيقة فلن نطلُ على العصر،وعبثاً نتحدث عن النظام الرئاسي والبرلماني والمختلط وما بين الثلاثة.. هذا بحث خطأ في الأفق الخطأ، لأن بداية البدايات كلها دولة مدنية ورئيس مدني
> يستند الذين يعذبون المواطنين في أقسام الشرطة وفي أقبية الأمن السياسي وفي المعسكرات إلى هذه الثقافة التي تحكم وعيهم ولا وعيهم، فهم واثقون من أن العقوبة لن تجد طريقها إليهم، وهي نفسها التي تجعل سراة البلاد وأعيانها، شيباً وشباناً وصغاراً، يعبثون بقوانين المرور وهم واثقون من أن الشرطي لن يجرؤ على ايقافهم بلْهَ تحرير محضر بالمخالفة
 
قبل أن يعرف التطور الاجتماعي مجتمعات القانون الصوري، كان السائد فيه الأعراف والقواعد غير الصورية. يسود القانون في الأولى ويجري فيها التغيير والتطور عبر الصراع داخل مبدأ الصورية الشامل، والصورية تعني حصراً القاعدة التي تسري في كل المتحد الاجتماعي فتخلق وحدة مجتمعية تجد اساسها في قوانين مقررة، ويكون التطور في هذه المجتمعات متسارعاً، لأنه يحدث تغييراً على المبادئ الصورية يتناسب وحاجات التطور. أما مجتمعات الأعراف أو ما في حكمها من القواعد غير الصورية فإنها شديدة الركود إلي درجة يمكن معها أن يمتد عمر أعرافها احقاباً طويلة في الزمان، وإذا كان القانون في مركز دائرة التفكير في المجتمعات الاولى فإن العرف والاعتبارات المتعلقة بالشخص ومكانه الاجتماعي وملابسات علامات القوة هي التي تحتل مركز التفكير، ولذا فإن السمة المائزة للقانون هي الدقة والصرامة والشمول، وإلا فإنه ليس قانوناً، إنه في هذا الملمح يذكرنا، مع الفارق، بالقانون الفيزيائى أو الرياضي، أما العرف فهو مطاط وشديد النسبية ولا يعتبر هذا عيباً فيه البتة في المجتمعات التي تأخذ به لتنظيم حياتها، فهو يستجيب للذهنية السائدة، لأن الجماعات والفئات والشرائح الاجتماعية فيه تنتسب فيه إلى أصول وموروثات قيمية مختلفة، ترى صورتها المتطرفة في مجتمع الطوائف الهندية القديم.
يسود في هذه المجتمعات ما يمكن أن يسمى ثقافة الحصانة، لأن كل مجموعة تتمترس داخل طائفتها أو قبيلتها، وثقافة الحصانة تجد حصانتها في مكان الطائفة أو القبيلة، في موقعها داخل ميزان علاقات القوى، وما يرتبط بها من تصورات عن الذات والآخر، والمبدأ الصوري الذي يوحد النظر إلى الأفعال والفاعلين غائب، ولذا تقرر المسؤولية داخل علاقات القوى، وبأسلوب فيه قدر مفزع من الفجاجة والبدائية لا يتسع لمبدأ المساواة أو الاخوة بين البشر. المبدأ الحصري لب هذه التصورات، وأقدم مثال له مكتوب نجده في التوراة والتلمود، فما هو محظور على الأغيار مباح لليهود، والعكس صحيح في أمور محورية تتعلق بالنفس والمال والربا والعقوبات والزنا.. الخ.إن كون هذه الأحكام مدونة لا يكسبها مبدأ الصورية لأنها لاتنصرف إلا إلى أصحابها حصراً لا إلى البشرية جمعاء.
تزدهر ثقافة الحصانة كلما غاب المبدأ الصوري، حتى إذا أطنب المجتمع في التحدث بلغة القانون والنظام والوطنية والوحدة والشريعة الغراء. وهذا فصام يحاول حجب الحقائق ولا يعبر عن أية ممارسة حقيقية لهذه الكلمات- المعاني الكبيرة.
يستند الذين يعذبون المواطنين في أقسام الشرطة وفي أقبية الأمن السياسي وفي المعسكرات إلى هذه الثقافة التي تحكم وعيهم ولا وعيهم، فهم واثقون من أن العقوبة لن تجد طريقها إليهم، وهي نفسها التي تجعل سراة البلاد وأعيانها، شيباً وشباناً وصغاراً، يعبثون بقوانين المرور وهم واثقون من أن الشرطي لن يجرؤ على ايقافهم بلْهَ تحرير محضر بالمخالفة، فرغم الفارق بين جريمة من يعذب انساناً أعزل ومن يرتكب جنحة فإن المصدر مشترك بينهما.
تلقيت في تسعينيات القرن الماضي عدداً من الشكاوى من مواطنين أصيب بعضهم بعاهات وآخرون فَقدوا أو دُمرت سياراتهم جزئياً بوساطة السيارات المسرعة التي تسبق وتلحق بموكب رئيس الجمهورية. ثقافة الحصانة في هذا السياق قرار جمهوري يهدف إلى حماية من يتوحد بالوطن والوحدة والجمهورية وبإمكان بقاءاليمن جزءاً من كوكب الأرض. إنه التجسيد الحي لثقافةالحصانة وراعيها وحاميها فهو أبو الحصانات بامتياز، ولذا لم نسمعه مفاخراً إلا بسنحان، فالقبيلة بديل للأوطان والمبادئ والشرائع لأنها صنم قديم.
والذروة الفاجعة في ثقافة الحصانة تتمثل في انتقال مجال فاعليتها إلىالمدى الاجتماعي والحياة اليومية، إذ تصبح نمط الحياة في المجتمع الذي تسود فيه الذهنية القبيلية،وفضاؤها الأمثل: «النظام الجمهوري القبيلي» (1962 -     ) يبالغ بعض الدارسين الاجتماعيين عندما يقررون ان أي عمل يتكرر بضع مرات في سياق اجتماعي يصبح ظاهرة، ويهبط بعضهم بالتكرار إلى ثلاث مرات. أما في حالنا فإن القتل العمد الذي يرتكب بدم بارد بالاستناد إلى ثقافة الحصانة فإنه ظاهرة تكاد تكون يومية، لأن ما يُعرف إنما هو ما يحدث في العاصمة وعواصم المحافظات. وليس مدهشاً أنها تتكرر بصفات تجعلها نمطية، كما نقرأ في الروايات البوليسية، وهي عندنا إفصاح عن مضمون راسخ في السلوك الاجتماعي يشير إلى المرجع القيمي الذي يحرك هذا السلوك: ثقافة الحصانة، والذين يهتدون بنورها المظلم هم كل المنضوين تحت لواء المؤسسة القبيلية العسكرية التجارية الحاكمة، والصفة المائزة التي تحدد وجودهم الاجتماعي ليست المدنية أو العسكرية بل مكانهم في التراتب القبيلي، وهذا المكان يحدد الصلاحيات في الجهازين المدني والعسكري فالدولة: السلطنة- الجمهورية لم تقطع الحبل السري الذي يربطها بمجتمع الاعراف الذي يعادي المبدأ الصوري من الأساس وبالتعريف، وتكاثر الادارات والوزارات ليس إلا دليلاً على الحاجة إلي وسائل جديدة لا إلى وظائف جديدة حديثة وعصرية، ومن هنا فهي ليست أدوات لإسباغ مبادئ جديدة في حقل العلاقات بين الأفراد والجماعات والطبقات، لأن هذا الحقل لا يزال محكوماً بعلاقات المجتمعات العسكرية، فالسيادة العليا فيه قائمة على القوة: الجيش، لا على الحق: الدستور والقانون ووجود مجال سياسي مستقل عن الدين والملك. ولذا يتعذر قيام السياسة المدنية وعقلانيتها الحاكمة. وأول السياسة المدنية سيادة المبدأ الصوري. ويتحدد الفرق بين الاثنتين في أن الحق في الأولى مع القوة بينما الحق في الثانية قوة فاعلة في العلاقات بين الناس، فهو إذ يتجسد في القانون حصيلة علاقات قوى وإن كان هذا في المجتمعات الطبقية أمراً لا سبيل إلى إنكاره ولكنه في الوقت نفسه حصيلة خبرات وقيم اخلاقية تراكمت عبر ممارسات فكرية وعملية تعود إلى احترام المبدأ الصوري، فالدولة رغم أنها جهاز قهر طبقي (ماركس) وتحتكر حق الاستخدام العلني للقوة (ماكس فيبر) إلا أنه لا يمكن اختزال طبيعتها ووظيفتها في القهر، فهي تنظم العمل الاجتماعي والتضامن الاجتماعي وكل أشكال الانتاج المادي والروحي، وكثيراً ما يكون استخدام القوة العلني خدمة لهذه الأهداف.
في مجتمعات الأعراف لا يوجد تصور لفرد في ذاته ولذاته، إنه ملحق إلحاقاً عضوياً بالجماعة: القبيلة- العشيرة- الطائفة، أما في مجتمع القواعد الصورية فهو فرد في ذاته ولذاته، هو عماد المجتمع والدولة والحضارة والثقافة. والذين يقولون إن الماركسية تلحق الفرد بالدولة لم يقرأوا الجملة الرائعة التي وردت في الفصل قبل الأخير في البيان الشيوعي: إن شرط حرية الجماعة هو حرية الفرد. الفرد إذاً ذات أي فاعل حر مبدع ولذا كان مكانه في دول رأسمالية الدولة، التي سميت اشتراكية، يناقض دوره الاجتماعي والسياسي. والفرد بالتعريف شرط قيام المجتمع المدني، وهو غائب في الجماعات العضوية: القبيلة -العشيرة- الطائفة، أي كل ما قبل المجتمع الحديث. وهذه الكيانات عائق أمام قيام المجتمع المدني، فهي بالتعريف لا تعرف فكرة الاختيار الحر والانتماء الطوعي إلى مؤسسة، وإصرار بعضنا علىأن القبيلة مجتمع مدني إنما (هو) اسلوب وطريقة عصرية في الدفاع عن كيان غير عصري لأنهم مثل النظام يستندون إليه ولا يستطيعون التفكير خارج أفقه، وهؤلاء كثر في أوساط الاسلام السياسي الزيدي وفي حزب الاصلاح. فمن الواضح أنهم لا يعرفون تاريخية المجتمع المدني ومسار هذه التاريخية.
إن السلطة القائمة تقدم لنا صورة شديدة الوضوح عن مجتمع القواعد غير الصورية، فهي كلما تعاملت مع ممثلي او زعماء القبائل في قضايا كبيرة أو صغيرة، سواء أكانت انقاذ سائح مخطوف أم إصلاح انبوب نفط أو إنهاء تمرد أو تسليم قاتل، تفاوض هؤلاء الممثلين أو الزعماء، فالقبيلي الذي يرتكب هذه الاعمال ليس فرداً مواطناً في دولة إنه أولاً وقبل كل شيء ابن القبيلة، ومن هنا تصدر كل تصوراته عن نفسه وكذلك تصورات السلطة عنه، ومن هنا عدم تساوي المعاملة فالشمال غير الجنوب والشرق غير الغرب لا في الجغرافيا بل أساساً في الجغرافيا السياسية، فالقاتل التعزي أو المتمرد في أبين أو يافع لا يُعرف وفقاً للقواعد الصورية نفسها مقارنة بنظرائه في صنعاء وذمار وحجة. لم أذكر تهامة في هذا السياق، فهي في الجغرافيا السياسية نظير الأخدام في الخريطة الاجتماعية، منبوذة خارج المجتمع مع أنها أرض ميعاد هذه البلاد، لو كان فيها نظام لا يستدبر البحر ومتحرر من ضلال القرون. إنها أرض ميعاد بشعبها وأرضها وبحرها.
إن تحرر شعب تهامة من كل أغلاله سوف يكون دليلاً على أننا أصبحنا مجتمعاً حديثاً. لا تدخل السلطة القبيلي في مبدأ صوري لم يستقر ليصبح مرجعاً في تفكيرها رغم كل ديكور الدولة العصرية، وهو بدوره ينظر إليها قبيلة أخرى أو القبيلة المناوبة على السطة، فالعلاقات بين الطرفين ينظمها تصور مشترك يوحدهما في أخطر القضايا: عقوبة القتل، ومسألة الولاء الوطني، واحترام القوانين. وتدل الخبرة التاريخية الطويلة أن الاسلام لم يغير هذه الذهنية تغييراً حاسماً، فسرعان ما تغلبت القبيلة على المبادئ الصورية التي جاء بها لتوحيد الجماعة الاسلامية. وليس مصادقة أن أول نزاع بين الامام يحيى والاتحادات القبيلية كان على تطبيق المذهب الزيدي بدلاً من حكم الطاغوت، أي الأعراف التي تحكم العلاقات بين ابناء القبائل وتسمى القواعد، فهي تمس قضايا حيوية من القتل إلى ميراث المرأة...الخ.
بعد إنقلاب سبتمبر 1962 أصبحت القوة وحدها أساس الشرعية، وودَّع اليمنيون قوة الشرعية وإن في أكثر صورها تدهوراً وتضليلاً وتخلفاً، لأن ما جاء مع الانقلاب إنما هو مبدأ القوة العارية، ولذا فإن التغيير بالانقلابات العسكرية أسوأ انواع التغيير في جميع الأزمنة والأمكنة بعد أن دخلت البشرية عصر الحداثة.
إن العسكر يلغون المجال السياسي، فالتفكير في نظرهم جناية، أما التفكير السياسي فهو الخيانة بالتعريف.
2 - قتلُ محمد حمود الحامدي الحبيشي قبل بضعة أيام كان أحد الأمثلة الصارخة على ر سوخ ثقافة الحصانة رسوخاً ضارياً، فالقتل العمد لسبب تافه دليل على أن العزة بالإثم إحدى الثمار المرة لهذه الثقافة. كان هذا القتل إعلاناً للقوة وتباه بالمركز ينفي حضور وجود ذرة من المشاعر الانسانية في نفس القاتل/ القتلة، وتبلغ اللاانسانية ذروتها في ارتكاب الجريمة أمام أعين ابني القتيل، كما أن الاخراج والاداء الجماعي للفعلة الشنعاء إشارة واضحة وصريحة إلى المصدر والمرجعية في مستوى القوة المادية والسند المعنوي: الجماعة -القبيلة، وسمتها التضامنية التي تميزها في جميع مستوياتها في الدولة والمجتمع.
وإذا كان الجنود في الجنوب يقتلون ثم يلتجئون إلى المعسكرات التابعة لجيش القبيلة فإن قتلة الحامدي لاذوا رأساً بحمى القبيلة الأساسي في أقوى مستوياتها، فهو من ناحية حمى القبيلة الخاصة التي ينتمي إليها الرئيس التي باهى بها الرئيس البلاد كلها قبل نحو شهر، ومن ناحية أخرى رمز عام للقبيلة بما هي مفهوم وذهنية واسطورة متواشجة بنسب موهوم وخرافات عن الجدود العظماء. ونشر في الصحف أن القاتل الرئيسي والمتهم الأول يعمل في غير مؤسسة بالقصر الجمهوري في صنعاء وعدن، وكذلك أخوه.
 تلغي ثقافة الحصانة، التي ترتكب بهديها وحمايتها الجرائم، مبدأ المساواة بين المواطنين وإن كانت هذه الصفة غير مطابقة لواقع الحال إلا باعتبارها إمكاناً منشوداً، وهي بذلك مثل الوطن، الذي يتعذر تصوره بدون مواطنة. إننا لم نحقق بعد الاندماج الوطني الذي هو الأساس المتين للمواطنة والوطن.
عندما كتب مونتسيكيو كتابة المشهور «روح الشرائع» أكد فيه أن الشرائع ثمرة لون من الحتمية الجغرافية (وهي فكرة ألمح إليها ابن خلدون الحضرمي) والأعراف والتقاليد ولكنه أراد بذلك أن يصل إلى مستوى جديد يتجاوز مبدأ الشرف الذي يحكم النظام الملكي وكذلك مبدأ الخوف الذي يسود في الدولة الاستبدادية، فرأى في مبدأ الفضيلة بديلاً للاثنين ويقصد به حب الوطن تحديداً، أي الانتماء إلى متحد جديد، حتى يتجسد في العلاقات بين المواطنين مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث في استقلالها وتكاملها فيمتنع الاستبداد والظلم وحكم النزوة. وتكامل السلطات واستقلالها وحدة جدلية تضمن الاستمرار والاستقرار الحي والتطور. الفصل بين السلطات وسيلة وغاية، وليس البتة غاية في ذاته، فسعادة البشر هي الهدف الأول والأخير.
إن صرخة «العقيدة» القبيلية التي أطلقها القاتل/ القتلة مع رصاصهم كانت يالغلغي، وقد ترددت في أحداث أغسطس 1968 لأول مرة في تاريخ الشمال السياسي. وفحوى هذه العقيدة مشترك بين الرئيس والأحمر الأب واليدومي. كانت المباهاة المذكورة آنفاً تعبيراً غير مباشر عنها، أما الأحمر الأب فمنذ يوم الوحدة الميمونة وهو يردد إن الجنوبيين، ولا سيما عدن، خليط من الهنود والأفارقة والصومال بل والبلوش والاندنوسيين. وقد فاضت انسانية اليدومي يوماً بعد حرب العام 1994 فأراد تحسين نسل الجنوبيين بنقل مليون إنسان/ شتلة من الشمال الآري إلى الجنوب، ولا أدري إن كان على علم بعلم النسالة (اليوجينيه) الذي تحمست له دول في أوروبا منها السويد، كما راج في امريكا الشمالية، ولكن الذين اعتبروه عقيدة سياسية هم النازيون وحدهم، وذلك في العشرينيات والثلاثينات من القرن الماضي.
إن أقوال هؤلاء ليست شططاً عابرا بل صورة أمينة لثقافتهم القبيلية، فهي مرجعيتهم الأساسية بل والوحيدة، وما خلاها تفاصيل يؤخذ بها أو تترك وفقاً لظروف الزمان والمكان، وكان الأحمر الأب صريحاً وصادقاً عندما أكد غير مرة لو تعارضت الديمقراطية مع القبيلة فإنه يرفضها ويتمسك بالقبيلة.
إن الحديث عن الدستور والقوانين عند مناقشة هذه القضايا جهد تنويري مثمر على المدى البعيد في صفوف المضطهدين، ولكنه لا يزحزح تصورات أحد في الطبقة السياسية الحاكمة قيد أنملة، فهي مكتفية بذاتها داخل مؤسستها المغلقة والتي تشع ظلماً وفساداً حتى أصبح الفساد نظاماً. وهي متمسكة بعروتها الوثقى: الجيش مصدر السلطات، ولا فصل بين رئاسة الدولة ورئاسة الجيش، والدولة والمجتمع مجعولان للجيش وما المديح المكرر حتى الإملال للجيش والأمن إلا تأكيداً لهذه الحقيقة. وإذا لم نتجاوز السد الذي يحجب الحرية والحق والحقيقة فلن نطلُ على العصر،وعبثاً نتحدث عن النظام الرئاسي والبرلماني والمختلط وما بين الثلاثة.. هذا بحث خطأ في الأفق الخطأ، لأن بداية البدايات كلها دولة مدنية ورئيس مدني.
3 - لهذه الذهنية حضور راسخ في القمة والقاعدة والوسط، وهذا سبب استمرارها بصورة نمطية، لأنها لو كانت من ثمار العصبيات الصغيرة التي توجد في كل المجتمعات لكانت نادرة الحدوث وغير نمطية، ولاتخذ القضاء منها موقفاً يمليه القانون، أما في اليمن السعيد بحكامه فإن القضايا لا تصل إلى القضاء إلا نادراً، وفي هذا الحال تتعثر، والغالب معالجتها بالعرف القبيلي.
في الدول التي يسود فيها المبدأ الصوري تصبح الأعراف نافذة كما لو كانت قانوناً، أي تكتسب صفة الصورية الحاكمة في المجال القانوني بينما يلغي القانون في الدول التي يسود فيها العرف المبدأ الصوري، رغم أنه موجود في نصوص القوانين وفي الدستور، لذلك ينحط القانون إلى مستوى العرف، ويرتفع العرف إلى مستوى القانون من حيث تنفيذه فيغدو ظلماً فاجعاً يمس أكرم وأقدس مكنونات الضمير ومعنى الحياة. ولذا يسود التشاؤم وعدم الإيمان بالتضامن وإمكان انتصار الخير والعدل في حياتنا. وهنا يكمن الفرق الحاسم بين سيادةالمبدأ الصوري، أي القانون، وسيادة الأعراف، فلا يكون العرف مصدراً من مصادر القانون بل قانوناً.
قَتَل ضابطٌ الطبيب عبدالقادر حمرة في العام 1984 في باب موسى بتعز، فبعد ان سقط القتيل وبدأ النزف غزيراً من جسده وقف القاتل مهددا شاهرا سلاحه حتى لا تقترب سيارة الاسعاف او أي مواطن لاسعافه، وعندما تأكد أن عبدالقادر قد مات ذهب إلي حال سبيله. كان أمراً يمكن وصفه بمابعد السادية، بينما الأمر كله كان مماحكة من المماحكات التي تحدث كل يوم، ولكن الضابط ووالده، والأخير من أصدقاء الرئيس كما قيل، لم يستطيعا صبراً على الاهانة التي لحقت بهم من الطبيب الذي لا يزن جناح بعوضة في سلم المقامات القبيلية.
خرجت في تعز مظاهرة حاشدة تهتف ضد الزيود لأول مرة بعد 1962، بدلاً من الهتاف ضدا على السلطة. قضى القاتل فترة في السجن، وكان فيه سيداً مطاعاً، ثم شاع أنه نقل إلى ألمانيا للعلاج... وأخيراً سويت القضية بالصلح القبيلي.
وما هو جدير بالإنتباه في كل حوادث القتل هذه أنها تنطوي على شىء أفظع من القتل: إحتقار الانسان، ويبدو أنه مدخل إلى القتل والتعذيب، أما الضحايا فهم دائماً من الجهة الاخرى، من القبيلة التي ليست قبيلة في عيون القتلة.
وحادثة إطلاق النار على الأخ حسن مكي معروفة، وحدثت قبل خطبة الحرب التي ألقاها الرئيس بثلاثة أيام، أي في الساعات السابقة على شن الحرب على الجنوب. ولا يوجد قول أبلغ من بيان الشايف الذي نشرته صحيفة «الشورى»، فهو لم يرد إلا مساعدة الحكومة على ضبط الأمور فمكي بالتعريف مع الجنوب، رغم أنه في منصب رسمي، أما هو فإنه متوحد بالحكم/ بالنظام ولا يمكن أن يكون الأمر إلا على هذه الشاكلة، فهو القطب الثاني في كيان الأمة، وإن كان مطلبه الثابت الندية مع حاشد كما صرح في حديث طويل أحد زعماء بكيل، عبدالوهاب سنان، في حديث طويل نشرته «يمن تايمز»(ديسمبر1995).
كان قبول مكي الحل القبلي الذي زحف إليه بالرجال والثيران إحدى ذرى انتصار الماضي على الحاضر والمستقبل. فذلك المنظر البدائي قد خلفته كل الشعوب وراءها منذ قرون وقرون. ونحن على العهد باقون.
قال أحد الوزراء وهو يشاهد ذلك المنظر لزميله بالانكليزية هذا يوم ذبح القانون والدستور، والقائل واحد من الذين يوصفون بأنهم التكنوقراط، وأشك في استحقاقهم هذا الوصف باستثناء الراحل محمد سعيد العطار. والسؤال: متى طبق الدستور واحترمت القوانين في سلطة الأعراف والحكم الشخصي؟ وما أكثر المثقفين الذين يتظاهرون بأنهم ليسوا مع النظام وهم من أخلص خدامه.
4 - يسرد الباحث المتميز «جورج قرم» مسار التحول الذي هيمن على مستقبل المسيحية من خلال ركام القوانين الصادرة في كنف الكنيسة، والنواهي والمحظورات التي اتخذت بحق اليهود والهراطقة، وكان كل الذين يفكرون بعقولهم يقضون نحبهم على المحرقة، وهذه أهوال «نظرية الاذلال» التي اختلقها اللاهوتيون فأثمرت قرونا من التعصب المر والدموي. بيد أن المسيحية نفسها كانت ضحيتها فقد كانت سبباً في انشقاقات القرن الخامس، التي فصلت الشرق السامي والقبطي (المصري) والأرمني عن بيزنطة (الروم)، وانشقاق القرن العاشر الذي بتر القسطنطينية وفي حذوها انطاكية والاسكندرية عن السدة الرسولية في روما، وانشقاق القرن السادس عشر الذي حطم إلى الأبد وحدة الدولة المسيحية (ريبوبليكا كريستيانا) الوسيطية. فقد مارست المسيحية أممية دينية قبل الاسلام: دولة الخلافة أو دار الاسلام، وكان فيها الدين دولة باطشة وأداة تسعير مظالم دنيوية مدمرة، تماماً كما حدث في تاريخنا بعد ذلك.
رغم الفرق الشاسع في المستويات كافة بين تلك الأحداث الكبيرة والحال في يمن ما بعد الوحدة، إلا أن العبرة إنما هي في لب الدرس التاريخي، وفي أن الاستبداد له ملامح مائزة عابرة للقارات والديانات والثقافات، والمشترك هنا بين العصور والدول هو المحاولة البائسة في جعل الإذلال شرط الشروط في النظام، وهو قوة تسند الخوف وقد يتجاوز فاعلية تأثير الخوف في كثير من الأحيان، لأنه ينطلق رأساً إلى الهدف: تقويض أساس الذات الذي يشكل الشخصية الانسانية، أي الكرامة، والحط من قدر الانسان في نظر نفسه، وبعد ذلك يسهل إلحاقة بحياة البهيمة. إنه القصد نفسه من التعذيب.. ولكن مع الاستسلام لفعل الاذلال يصبح الانسان جلاد نفسه.
ما حدث في مأرب وصنعاء والضالع مع القعقوع وصائل وهارش يكاد يكون متطابقاً في تفاصيله وكأن المخرج وكاتب السيناريو يشتركان في إخراج المشهد معاً. يؤمر الجندي بالإنبطاح، أو يعلق في عنقه إطار سيارة، ويؤمر فوج من الجنود بالمرور عليه، ويشتم بالكلمات نفسها تقريباً: لولا أنك مكلف ما بقيت في الحبس. المطلوب أن يكون الجيش نقيا لا شية فيه وملكاً خالصاً لأهله. هذه الصور من الإذلال وتكرارها في صورة نمطية يدل على الأمر ليس نزوة ضابط منتشٍ بخمر النصر وثقافة الحصانة، بل هو عمل روتيني يراد له أن يطرد البقية الباقية من الجنوبيين.
عزوف الجنوبيين من الذهاب إلى الدوائر الرسمية سببه فظاظة المعاملة، وهي خبز الإذلال اليومي كلما اضطرتهم الحاجة الملحة إلي الذهاب إلى تلك الدوائر.
غضب نيتشه الشديد من رجال أوروبا في القرن التاسع عشر، فهم قد تخلوا عن الشجاعة والذود عن الكرامة، وهو يقدم وصفاً شائقاً وطويلاً لهذا الرأي. وقد جاء تعقيب أحد الدارسين الغربيين على ذلك موفقاً ودقيقاً فالرجال في هذا الزمان يمكن وصفهم بأنهم «رجال بلا صدور» في إشارة إلى الصدر وهو موئل قوة الغضب والدفاع عن الكرامة عند افلاطون في دولته.
إن الناس جميعاً في بلادنا يعانون ويلات ثقافة الحصانة، و«نظرية الإذلال» غير المعلنة، ولكنها تمارس بدأب وانتظام. فهل أصبحنا جميعاً رجالاً ونساءً بلا صدور، وأننا كما يقال عن بعض المرضى: هذه حال ميؤوس منها؟
لا أظن أن الأمر بلغ هذه الدرجة من السوء. علينا أن نتضامن دون تردد وبشجاعة فالأمر لا يخص أسر الضحايا أو أبناء منطقتهم، إنه شأن مجتمعي بامتياز ويتعلق بالكرامة التي إن غابت احتجب الوجود الانساني كله، وعندئذ يفقد الوجود -في-العالم معناه، ويجرف في طريقه كل مسرات الحياة الكبيرة والصغيرة. فلنجعل من مقتل الحامدي قضية عامة تخص الجميع وكل واحد.. وإلا لن يتوقف نزف كرامة الوجود الانساني.

18/6/2006
* بعد كتابة هذه الصفحات جاء في الصحف قتل البحري والريمي والكدن... وكلهم من مواطن المستضعفين في الأرض.